أنقِذوا لبنانَ من النقلِ والتقليدِ بالخلقِ والابتكار
كتب طارق سيف الدين

من العراق إلى ليبيا فالسودان، وليست سورية الشام المحطةَ الأخيرةَ في زمنِ قلبِ الأنظمةِ وتفكيكِ جيوشِها.
نتائجُ حققها غزاةٌ تغنّوا بالديمقراطيةِ وحرياتِ الشعوب، فتفنّنوا في الهيمنةِ، وأوغلوا في القتل، وسيُكملون حتمًا ما دام لا توجدُ قوّةٌ تردعُهم أو تكبحُ جموحَهم.
وبين دمقرطةِ الهيمنةِ وحريةِ القتل، مرورًا بكلِّ انقلابٍ في الوقائع، وتضليلٍ للحقائق، ومفاجآتٍ للنتائج، تُروى قصةٌ عن جيوشٍ انتظمت بالعسكر، وتراكمت بعقيدةِ العسكر، واعتاشت العسكريتاريا عقودًا على خبزِ الوطن، لتسقطَ في امتحانِ صونِ الأرضِ وحمايةِ السيادةِ متى فُرضَ الامتحان.
قصةٌ لا يهمّنا أن نرويَ تفاصيلَ الخيباتِ والخِياناتِ فيها، ولا ينفعُ استعراضُ مشهدياتِ الصمودِ والتصدي، بل يهمّنا أن نوثّقَ أنّها جيوشٌ، ولو للحظةٍ، ظنّت شعوبُها أنّها مقدّسة، وجعلها المغالون فوق كلّ شك، وانساق الطيّبون بوهمِ البطولاتِ لأمجادِ الأجداد، يرفعون لها أبراجَ المجد فوقَ جبالٍ من فسادِ الذمم، في ضبّاطٍ قلّدوا أوسمةَ الإباءِ ظنًّا أنّ النفوسَ أبية، فكان الوسمُ فسادًا متغذّيًا على عرقِ الجباه وكدِّ السواعد، إلّا ما عفا ربّي…
وباستثناءِ من عزّتهم البطولةُ في تضحيةِ الروح، فمارسوها مرتفعين بوقفةِ عزٍّ تشقُّ طريقَ الموتِ بمحراثِ الشهادة، باذرين الأنفسَ في حقولِ الأملِ غلّةً لمواسمِ الأجيال، خالدين فيها.
قُلِبت الأنظمةُ وتساقطت الجيوش، وأغلبُنا غشاه الذهولُ وصدَمه الخذلانُ حدَّ الفجيعة. كيف لا نفجعُ ونحن الذين تلمذتنا العسكريتاريا عبر كتبِ التربية الوطنية منذ صفوفِ الدراسةِ الأولى، فكان انتظامُنا في الباحاتِ صفوفَ عسكر، وبوحُ الحناجرِ شعارًا ونشيدًا، وإعازاتُ الانتظامِ أوامرَ لقادةٍ اعتدنا تنفيذَها آليًّا متمثّلين العسكرَ نظامًا شكلًا بلا روح.
وتمرُّ أعمارُنا دون أن نفهمَ أو يشرحَ لنا أحدٌ الغايةَ منها. وما إن يكون العمرُ بعثَنا فِتوةً حتى نُقادَ لخدمةِ العلم (إجباريًّا)، لنؤدّي قسطَنا من الخدمةِ العسكريّة التي نُقرّ ببعضِ أوجهِ الإيجابيةِ فيها على الأفراد، وقد تحصدُ البلادُ بعضَ الغلّةِ منها. إلّا أنّ في تقليبِ وجوهِها بالطريقةِ والأسلوبِ المتّبعين نجدُ سلبيّاتٍ تلامسُ حدَّ الخطورةِ على الأفرادِ والبلادِ على حدٍّ سواء. (ولتلك الإيجابيات والسلبيات بحثٌ آخر منفصلٌ عمّا نسعى لطرحه هنا.)
وفي سياقِ فكفكةِ الأنظمةِ وتغييرِ الجغرافيا، يأتي دورُ لبنان. يأتيه التفكيكُ والتغييرُ من بابِ دفعِ الجيشِ اللبناني، وتحتَ وطأةِ العدوانِ الصهيوني، وفي ظلِّ أزمةٍ اقتصاديّةٍ لبلدٍ منكوبٍ أصلًا في ديونه، وخارجٍ من حربٍ أثقلت أحمالَه وعمّقت جراحَه، ليُزجَّ بالجيشِ الذي ما ملكت يمينُه إلّا قِلّةً من سلاحٍ “أبيض”، وجنده يرتزقون المعيشةَ في صفوفِه عسكرًا يتنكّبون مسؤوليةَ الذودِ عن أرضِ الوطنِ الخاضعةِ للاحتلالِ منذ خمسين سنةً تقريبًا، وصونِ سيادةِ الدولةِ المنتهَكةِ على مدارِ الساعة وبألفِ شكلٍ وطريقة.
يُدفعُ أو يُزجُّ بالجيشِ بإمكاناته الشبهِ معدومةٍ ليواجهَ عدوًّا بإمكاناتٍ غير محدودة، عدوًّا قد تعجزُ جيوشُ العسكريتاريا في عدّةِ دولٍ عربيةٍ عن تحقيقِ مكاسبَ تجاهَ غطرستِه المستمدّةِ من وقوفِ الولايات المتحدة الأميركية وأغلبِ دولِ الناتو خلفَ مشاريعِه.
يُزجّ بجيشٍ سقط في امتحانِ عامِ 1975 يوم سقط البلدُ في أتونِ الحربِ الأهليةِ، وفشلَ الجيشُ بإنقاذِه، وهو الجيشُ نفسُه الذي سقط في عام 1982 يوم اجتاح العدوُّ الصهيونيُّ لبنان حتى العاصمة، والجيشُ في ثكناتِه مكفوفُ اليدِ مسلوبُ القرار.
ومرّت السنينُ تلوَ السنين، فلا استطاعَ الجيشُ أن يبنيَ قوّةً أو يُعدَّ عتادًا، ولا أن يبعثَ الجنديةَ في روحِ الوطن. إنّما كان القرارُ السياسيّ دوماً بجعلِه مؤسّسةً عسكريّةً أمنيّةً لحسابِ ارتزاقِ الشبابِ بوظيفةٍ غير منتجةٍ، سوى بعضِ الأمنِ لسياساتِ الحكوماتِ التي نهبت خيرَ البلاد وسرقت المالَ العامَّ والخاصَّ للمودعين، دون أن يكونَ للجيشِ دورٌ في حمايةِ أرزاقِ الناسِ والمالِ العام، بل كان الدورُ حمايةَ الطبقةِ السياسيةِ الحاكمةِ من غضبِ الشعبِ وإرادةِ الناسِ في التغيير.
هنا لا نروي الأحداثَ لنحمّل الجيشَ في لبنان ما لا يُحمَل، ولا لنتّهمَه بذنبٍ لم يقترفْه، بل السلطةَ السياسيةَ التي تُديرُ دولةً ذات بنيةٍ طائفيةٍ مقيتة، فيها سلطةُ رجالِ الدين فوقَ رجالِ العلمِ والوطن، وفيها المذاهبُ كانتوناتٍ تضعُ الحواجزَ وترفعُ متاريسَ التفرقةِ بين أبناءِ الشعب، لتُفرّقَ فيسودَ حكمُ الإقطاعِ السياسيِّ والطائفيِّ الذي لا يناسبُه بناءُ جيشٍ يحمي مصلحةَ الوطن ويُعليها فوقَ مصالحِ المذاهب ورجالاتِ الإقطاعِ السياسي، ولا يناسبُه اقتصادٌ موزّعٌ على قاعدةِ الإنتاجِ ومبدأِ إنصافِ العمل.
إقطاعٌ سياسيٌّ تُرعبُه وحدةُ الشعبِ وتآخي الناس، فلا يفتأُ يُولّدُ الفتنَ بينهم، ويَبذرُ الفرقةَ فيهم عبر صراعٍ سياسيٍّ مصطنعٍ أو مأجورٍ في أغلبِه لإراداتٍ أجنبيّة، وآخرُ إبداعاتِ ذاك النظام خلقُ الفرقةِ بين الجيشِ والمقاومة، فيطلبُ منه سحبَ سلاحِ المقاومة، ويحدّدُ لمهمّتِه مهلًا حسبَ رغبةِ المبعوثين الدوليين ومزاجِهم.
سحبُ سلاحِ تلك المقاومة التي انطلقت يومَ غاب الجيشُ وغابت الحكومةُ عن حمايةِ الأرض وصونِ السيادة، فحرّرت بيروتَ ومرّغت أنفَ العدو، وحرّرت صيدا، وانتصرَت في تحريرِ الجنوبِ بالقوّة، وتحتَ ضرباتِ العملياتِ النوعيّة التي كسرت كلَّ ردعٍ، وداسَت نعالُ المقاومين كلَّ هيبةٍ لجيشِ عدوٍّ اعتادَ على مرّ عشراتِ السنين أنّه لا يُقهَر.
مقاومةٌ حمت لبنانَ وعزّزت موقفَه تجاهَ الكثيرِ من المسائلِ والأحداثِ المحيطةِ به، وليست معاركُ فجرِ الجرودِ ولا مفاوضاتُ الغازِ البحري مثالين يتيمين من أمثلةِ القوّة التي منحتها المقاومةُ للبنان، تلك المقاومةُ التي بُني إنسانُها على الجنديةِ لا العسكرة، وبين الجنديةِ والعسكرةِ بونٌ شاسعٌ لا يفهمُه إلّا المدركون فعلَ البناء.
المقاومةُ التي يريدون من الجيشِ اللبنانيّ نزعَ سلاحِها بالقوّة لإتلافِه وتفجيرِه تحتَ عينِ المسيّراتِ الصهيونيّة، هي قوّةٌ للبنان ورديفٌ لجيشِه في ظلِّ عدوانٍ من عدوٍّ يعلنُ بوقاحةٍ أطماعَه في أرضِنا ومقدّراتِنا.
وإنّ سيرَ الحكومةِ – حكومةِ “غَبِّ الطلب” وملءِ الفراغِ التي فرضتْها قوى الهيمنة على لبنان واللبنانيين – في قرارِ زجِّ الجيشِ لنزعِ سلاحِ المقاومة، هو مؤامرةٌ على الجيشِ ومؤسّستِه، وبالتالي مؤامرةٌ على لبنانَ وشعبِه، وهو المسلكُ الذي يودي بنا إلى خسارةِ الجيشِ والمقاومةِ معًا، وجعلِ لبنانَ فريسةً لا تقوى حتى على الصراخِ ألمًا.
وعليه، يجبُ أن يتنبّهَ الشعبُ في لبنان إلى ما هو مُعَدٌّ ليكونَ بديلًا عن المقاومةِ والجيش، وما هو إلّا فوضى قاتلة، رأينا بعضَ طلائعِها في أحداثِ الجوارِ الشامي، وفي أماكنَ عدّةٍ لا تزالُ الفوضى تحصدُ بعماها أرواحَ الناسِ وأرزاقَ العباد.
وليس للبنانَ مفرٌّ من الفوضى إلّا بالتراجعِ عن قرارِ الحكومةِ أو جعله غيرَ نافذٍ كخطوةٍ أولى، والذهابِ باتجاهِ إنشاءِ استراتيجيّةٍ دفاعيّةٍ تستبعدُ العسكريتاريا القائمةَ على النقلِ والتقليد، وتعتمدُ الجنديةَ القائمةَ على الخلقِ والابتكارِ كمنقبةٍ أخلاقيةٍ ومفهومٍ فلسفيٍّ وقيمةٍ اجتماعيةٍ وأساسٍ ثابتٍ في بناءِ الجيشِ ومؤسّساتِ الدولة، وتستثمرُ عواملَ القوّةِ في لبنان – وأهمُّها المقاومة – في فرضِ شروطٍ تُعزّزُ دورَ لبنان، وتُعطيه مكانةً في خريطةِ الصراعِ الذي لا مفرَّ منه في منطقةٍ التهبت توتّراتُها حدَّ الحروبِ الكبرى التي باتت ترسمُ مشهديةَ الوقائعِ وتحولاتِ النتائج، وبعضُ بوادرِها ظاهرٌ للعيان.
وصونًا لمصيرِ البلادِ وأبنائِها نرى من الأهميةِ ونُقرُّ بالواجبِ الذي لو توجّهْنا منذ زمنٍ لإقراره كشعبٍ وأنظمةٍ (ولم يَفُت أوانُ إقراره اليوم)، ولو أدركْنا الأهميةَ من الأخذِ بمبادئِ إعدادِ بناءِ الدولةِ (ولم تَفُتْ فرصةُ الأخذِ بها اليوم)، لعلمْنا أنّ الأهميةَ والواجبَ يُقِرّان بأن نَلجأ إلى مبادئَ إصلاحيةٍ أساسيةٍ يقومُ عليها بناءُ النظامِ الجديدِ ومؤسّساتُه، وأهمُّها بناءُ جيشٍ يكونُ ذا قيمةٍ في صونِ مصلحةِ البلادِ وتحقيقِ سلامةِ الوطنِ وأبنائه.
مسؤوليةُ الحكومةِ والجيشِ والمقاومةِ معًا أن يخرجوا بفكرةٍ من خارجِ صندوقِ التقليدِ والنقل، ويأخذوا بمبدأ الابتكارِ والخلقِ الذي هو مبدأٌ حيويٌّ مستمدٌّ من روحِ بلادِنا وتاريخِنا الحضاري.
مبدأُ إنشاءِ جيشٍ يكونُ ذا قيمةٍ حقيقيةٍ بالفعلِ في تقريرِ مصيرِ البلادِ هو الجراحةُ الطارئةُ اللازمةُ للبنان، وفي حالِ عدمِ العملِ به فلبنانُ ذاهبٌ كالجسمِ المريضِ الرافضِ أخذَ العلاجِ حتى يتمكّنَ المرضُ من مقتلِه.
العالمُ عامةً، ومنطقتُنا خاصةً، في أمسِّ الحاجةِ اليومَ إلى المبادئِ الإصلاحيةِ في فكرِ سعادة، ولبنانُ أولى بفكرِ عظيمٍ من أبنائِه، فمبادئُه الإصلاحيةُ تشكّلُ وحدةً عمليةً لبناءِ الدولةِ ومؤسّساتِها، وتفادي ما يمكنُ تفاديُه، وإنقاذِ ما أمكنَ إنقاذُه




