التوتر الأميركي – الفنزويلي.. مواجهة على تخوم الجغرافيا والسيادة والنفط
بقلم الصحافي - إسماعيل النجار

{تمرّ العلاقات بين فنزويلا والولايات المتحدة بمرحلةٍ صعبة هي الأشد توتراً منذ عقدين على الأقل. فبينما تصف واشنطن حكومة نيكولاس مادورو بأنها “نظام استبدادي متورط في الجريمة المنظمة وتهريب المخدرات”، ترى كراكاس أن الولايات المتحدة تمارس “حرباً هجينة مفتعله” ضدها تشمل العقوبات، والعزل الدبلوماسي، والبدء بتحركات عسكرية في البحر الكاريبي.
{هذا الصراع يتجاوز حدود السياسة الثنائية، إذ يعكس تحوّلاتٍ أعمق في موازين القوى الإقليمية والدولية، ويعيد طرح سؤالٍ جوهري؛ هل ما يجري مواجهة على السيادة الوطنية، أم فصل جديد من فصول الصراعٍ العالمي على مصادر الطاقة والنفوذ في أميركا اللاتينية؟
{بدأ التدهور الكبير في العلاقات بين البلدين منذ عام 2019، عقب اعتراف واشنطن بزعيم المعارضة “خوان غوايدو” رئيسًا مؤقتًا لفنزويلا، وفرضها عقوبات خانقة على قطاع النفط الفنزويلي، شريان الاقتصاد الرئيسي للبلاد. ومع فشل محاولات التغيير السياسي السلمي، انتقلت واشنطن إلى سياسة “الضغط الأقصى”، في حين رسّخت كراكاس تحالفاتها مع موسكو وبكين وطهران.
{وفي الأشهر الأخيرة، وصلت الأزمة إلى ذروتها مع تنفيذ قوات المارينز الأميركية عمليات عسكرية في البحر الكاريبي، قالت إنها تستهدف شبكات تهريب المخدرات الخارجة من فنزويلا. إلا أنّ كراكاس وصفت هذه العمليات بأنها “عدوان مسلح” وانتهاك للقانون الدولي، وقدّمت شكوى رسمية إلى مجلس الأمن مطالبةً بحماية سيادتها الإقليمية.
وتعتبر كراكاس أن دوافع الصراع هو البعد السياسي والديمقراطي حيث تتهم الولايات المتحدة حكومة مادورو بتقويض الديمقراطية، وتزوير الانتخابات، وحرمان المعارضة من حقها في الترشح والمشاركة. وترى واشنطن أنّ أي انفتاح اقتصادي أو تخفيف للعقوبات يجب أن يُقابله “انتقال ديمقراطي حقيقي للسلطه”.
{لكن كراكاس تعتبر تلك المطالب “أداة ضغط لإسقاط النظام الشرعي”، وترى في المعارضة الفنزويلية امتداداً لمشروع تدخلي أميركي في شؤونها الداخلية.
{وشكلت العقوبات الأميركية أحد أبرز محاور الصدام واعتبرتها كراكاس أنها أحد أكبر أدوات الصراع مع الإمبرياليه الأميركية. فقد شلّت العقوبات المفروضة على شركة النفط الوطنية PDVSA القدرات التصديرية لفنزويلا، وأدّت إلى انهيار الإيرادات الحكومية وتراجع الإنتاج النفطي إلى أدنى مستوياته منذ نصف قرن.
{وترى واشنطن أن هذه العقوبات وسيلة للضغط على “نظام تعتبره فاسد”، فيما تعتبرها فنزويلا حصاراً اقتصادياً هدفه خنق الدولة لإجبارها على الخضوع السياسي.
{واتهامات الاتجار بالمخدرات والفساد هي حُجَج واهيه تطلقها واشنطن لتبرير تدخلها وعدوانها على فنزويلا!
وكانت الولايات المتحدة قد إتهمت كبار المسؤولين في الجيش والحكومة الفنزويلية بدعم شبكات تهريب المخدرات في ما يُعرف بـ“كارتل الشمس”، بينما ترى كراكاس أن هذه الاتهامات “ملف سياسي لتبرير العدوان”. وقد استخدمت واشنطن هذه المزاعم لتوسيع نطاق عملياتها العسكرية والاستخباراتية في المنطقة.
{النفوذ الإقليمي والجيو استراتيجي لفنزويلا} يمثّل محوراً استراتيجياً في معادلة النفوذ في أمريكا اللاتينية. فموقعها الجغرافي المطلّ على البحر الكاريبي يجعلها جزءاً من المجال الأمني الأميركي التقليدي، وفق “عقيدة مونرو”.
إلا أنّ انفتاحها على روسيا والصين وإيران خلال العقد الأخير غيّر موازين القوى في المنطقة، وهو ما تعتبره واشنطن “اختراقاً لأمنها القومي”. لذا يُنظر إلى التحركات العسكرية الأميركية الأخيرة بوصفها رسالة ردع موجّهة ليس فقط إلى كراكاس، بل أيضاً إلى خصوم واشنطن العالميين.
{ويبقى النفط مركز الجاذبية الحقيقي للتدخل الأميركي في البلاد!.
رغم الخطاب السياسي، يبقى النفط قلب الصراع الحقيقي. فنزويلا تمتلك أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، وقد شكّلت طيلة عقود مورّداً مهماً للسوق الأميركية. لكن بعد العقوبات، تحوّلت صادراتها نحو الصين وروسيا، فيما تحاول واشنطن اليوم إعادة دمجها في السوق العالمية، ولكن بشروط جديدة تضمن الحد من نفوذ موسكو وبكين في قطاع الطاقة اللاتيني.
وفي هذا السياق، كشفت تقارير عن عروض فنزويلية لمنح الشركات الأميركية امتيازات مفضلة في التنقيب والإنتاج، مقابل تخفيف العقوبات واستعادة جزء من العلاقات الدبلوماسية. لكن من غير المرجّح أن تشهد العلاقات بين الطرفين انفراجاً سريعاً. فواشنطن ترى أن “تغيير السلوك السياسي” شرط أساسي لأي تطبيع، بينما يعتبر مادورو أن الحوار لا يمكن أن يقوم تحت التهديد.
{ومع غياب الثقة وتداخل الأبعاد الإقليمية والدولية، يبدو أن المواجهة الأميركية الفنزويلية ستبقى مفتوحة على احتمالات التصعيد، سواء عبر العقوبات أو عبر “المناوشات المحدودة” في البحر الكاريبي.
{لكن في المقابل، يمكن أن يفتح الملف النفطي باباً لتفاهمات جزئية، خصوصاً في ظل حاجة السوق العالمية إلى مصادر جديدة من الطاقة بعد اضطرابات الشرق الأوسط وتراجع الإنتاج الروسي.
ختاماً إنّ الأزمة بين الولايات المتحدة وفنزويلا ليست مجرد نزاعٍ ثنائي، بل مرآة لصراعٍ أوسع حول شكل النظام الدولي المقبل ومصادر النفوذ فيه. فهي تجمع بين الجغرافيا والسيادة والطاقة، وبين السياسات الواقعية والقيم المعلنة.
وفي الوقت الذي تتشدّد فيه واشنطن باسم الديمقراطية، وتتمسّك كراكاس باسم السيادة، تظلّ المعادلة الأعمق قائمة: من يملك القرار في فضاء أميركا اللاتينية؟




