
في حيّ من أحياء بلدة الفاكهة البقاعية، أعادت «أم محمد» إحياء النول الخشبي الذي ورثته عن والدتها. استعادت حياكة السّجاد والبطانيات الصوفية بتصاميم تراثية، بريقَها تدريجيًا بعد الأزمة، بعد أن كانت هذه المهنة في طريقها إلى الاندثار قبل الأزمة الاقتصادية والمالية التي ضربت لبنان في تشرين الأول 2019، ومن المعروف عن «السجاد الفيكاني» أنه المفضل لدى السيّاح اللبنانيين والمغتربين الذين عادوا يطلبون هذا السجاد كرمز للهوّية والجذور.
أما «أبو رامي»، المعروف في زقاق البلاط، فعاد إلى مهنته القديمة في ترقيع الأحذية في صيف العام 2021، ما شكّل له مدخولًا يقيه من تداعيات الأزمة وانخفاض سعر الصرف، واليوم هو يشكّل مقصدًا لعشرات سكان المناطق المحيطة والذين يفضلون (لفترة معيّنة) ترقيع أحذيتهم على شراء حذاء جديد.
ومن هنا، فإن الأزمة لم تُسقط فقط نظامًا اقتصاديًا هشًا، بل أعادت الاعتبار لاقتصاد الإنتاج والحرف، وأظهرت أن الصناعات الصغيرة قادرة على الصمود والمساهمة في تعافي الاقتصاد، حيث انتشرت ثقافة «إدعم المحلي» في الكثير من المناطق اللبنانية، وموجة الوعي الشعبي هذه تعكس أهميّة دعم الإنتاج المحلّي، سواء بدافع اقتصادي أم وطني، ما شجّع على الإقبال على الصناعات اليدوية والحرفية بعد انكماش القدرة الشرائية لدى اللبنانيين.
فمع انهيار قيمة العملة وارتفاع الأسعار، لم يعد بمقدور كثير من اللبنانيين شراء المنتجات المستوردة أو ذات الكلفة العالية، ما فتح المجال أمام المنتجات الحرفية المحلية التي تُصنع بكلفة أقلّ وتباع بأسعار تنافسية، وهو ما شهدته بلدية الباروك الفريديس على سبيل المثال لا الحصر، حيث أعاد سكان هذه المنطقة الاعتبار لاقتصاد الإنتاج والحرف، وأثبتوا أن الصناعات الصغيرة قادرة على الصمود والمساهمة في تعافي الاقتصاد.
ومن الأمثلة أيضًا، التطوّر الذي شهدته معصرة دبس الخروب في بلدة القصيبة (قضاء بعبدا الأعلى)، ويؤكد ديمتري أمين نعيمة ابن صاحب المعصرة: «هذه المعصرة تمّ توارثها عبر الأجيال منذ العام 1905، وهي تطوّرت كثيرًا على مرّ السنين وخصوصًا بعد الانهيار الاقتصادي الذي تسبّب في تغيّر الظروف المعيشية عند اللبنانيين من حيث الوعي، حيث دفعت أبناء المنطقة إلى البحث عن المواد الغذائية الصحية لأولادهم»، وتمثل بالإقبال على بودرة الخروب التي يستخدمونها كبديل عن السكر، كذلك باتت هناك منتجات تعتمد على دبس الخروب كالصفوف والكعك والمعمول ومع القلوبات والكثير من أنواع الحلويات.
ويضيف: «دبس الخروب هو منتج أساسي لدى أهالي جبل لبنان. ففي بلدتنا، يوجد 5 معاصر لدبس الخروب، نشطت حركتها بعد أن تعثرت أحوال الأهالي المادية ومنهم لا تزال أموالهم محجوزة في البنوك حتى اليوم».
حال ديمتري، كحال الكثيرين من أبناء بلدته الذين استعادوا علاقتهم بالأرض من أجل الاهتمام بها، بهدف زيادة الإنتاج الزراعي كلّ حسب هوايته ورغباته، ويقول ديمتري: «نلاحظ سنة بعد سنة، ازديادًا في كميات الدبس وغيره كالفواكه والخضار، واليوم نصدّر منتجاتنا إلى الدول العربية والأوروبية من خلال تجار الجملة، بعد إخضاعها لمعايير معهد البحوث العلمية الصحية».
وفي هذا السياق، يعلّق رئيس المجلس المالي والاقتصادي للدراسات د .علي كمون قائلًا: «بعد أزمة كورونا، وقبلها الأزمة الاقتصادية والمالية وأزمة المصارف، بدأ الناس يشعرون بالشلل الاقتصادي والحركيّ؛ حيث غيّر الانهيار الاقتصادي الناس، وجعلهم أكثر خَلقًا وابتكارًا، ما أدّى إلى عودتهم إلى التجارة الصغيرة مثل الدكاكين، الأدوات الصحّية، والمحلات الصغيرة، وبالتالي التخلّي عن الاقتصاد الريعي».
ويتابع:«إن العوامل كثيرة، منها اعتماد الرسوم الجمركية على سعر الـ 89000 والذي أدّى إلى عودة تدريجية للإنتاج المحلي والصناعة الوطنية. فشهدنا مصانع جديدة للأحذية، والملابس، وغيرها من الصناعات الوطنية، نتيجة هذا التحوّل. ولولا وجود القطاع الخاص، لما كان لبنان قادرًا على النهوض من هذه الأزمة».
ويؤكّد د. كمون أن الحاجة دفعت الناس إلى ابتكار خدمات جديدة مثل خدمات التوصيل، والصيانة، وغيرها، ما أعاد الحياة إلى الاقتصاد المحلّي. معتبرًا أن هذا يعكس من جهة عودة القدرة الإنتاجية والاعتماد على الذات، ومن جهة أخرى يقدّم حلولًا معيشية واضحة خارج النمط التقليديّ الذي كان يعتمد كليًا على الاستيراد أو الخدمات الجاهزة.
وهكذا نجح اللبنانيون – بدافع الحاجة والمرونة – في تحويل الأزمة إلى فرصة لإعادة ابتكار الخدمات اليومية، والاعتماد على الذات، وإنعاش اقتصاد محليّ مصغر قائم على المبادرة الفردية والعمل المجتمعي ومنها: خدمات التوصيل (Delivery) المتخصّصة، خدمات الطاقة البديلة، خدمات التعليم المنزلي والدروس أونلاين، خدمات الزراعة المنزلية والعضوية، خدمات ترفيهية مبتكرة، وتسويق منتجات يدوية أونلاين.
فالأزمة دفعت الشباب اللبناني إلى تحويل هواياتهم إلى مشاريع، فظهرت مبادرات حرفية على وسائل التواصل، تسوّق منتجات محلّية مبتكرة بجودة عالية.
وفي الختام، يعكس هذا المشهد وجهًا جديدًا للبنان: وطنٌ يعيد اكتشاف طاقاته وقدرته على الإنتاج والابتكار. فعودة اللبنانيين إلى أعمالهم تعني عودة الأمل، وتعكس رغبة جماعية في النهوض من جديد، وتساهم في خلق سوق محليّة وفرص عمل حقيقية، وما هذا إلّا دليل على أن اللبناني، رغم كلّ الصعاب، لا يرضخ بل ينهض، بروح العمل والانضباط، ينفض عنه غبار الأزمات ليعود كما نعرفه: إنسانًا منتجًا ومبدعًا، قادرًا على الوصول إلى القمة من خلال عمل بسيط، وإرادة صلبة.
				
					



