
الغفلة للعقل كالغمد للسيف؛ فالسيوف في غمدها مشلولة، والعقول في غفلتها مقتولة. فما بالك بشعبٍ، بالنسبةِ الكبرى فيه، يَحيا الغفلةَ طريقةَ عيشٍ ويتوارَثُها من جيلٍ إلى جيلٍ، فيعيدُ الأحفادُ أخطاءَ الأجدادِ ويُوغِلُون الأبناء في غفلةِ الآباء ولا يحتسبون…
فمن غفلةِ سايكس – بيكو التي مرّت على صهوةِ الحربِ والجوعِ، وصهيلِ الانعتاقِ والتحررِ من أربعمائةِ عامٍ غفلةٍ في التخلفِ وقولبةِ الجمودِ والتحجُّرِ في قالبِ “الدين السياسيّ”، إلى غفلةِ الثوراتِ في الربيعِ العربيِّ — جغرافيًّا فقط؛ أميركيُّ المنشأِ، صهيونيُّ الهوى…
مرورًا بغفلاتٍ تُثبّتُ التقسيمَ بسكينِ الاستقلالِ، وصولًا إلى مشهدِ الغفلةِ في تثبيتِ التجزئةِ المستحدَثةِ بعربةِ “الشرق الأوسط الجديد”، تجرّها أحصنةُ الأقلياتِ بحجةِ الخروجِ من جورِ “نظامٍ ظالمٍ”؛ فإذا بها تدخل رقبتَها تحتَ نيرِ الاستعبادِ الصهيونيّ-الأميركيّ الأظلمِ، ولا من يتقون…
الشعبُ يَحيا الغفلةَ طريقةَ حياةٍ — وليس هو شعبَ الهنود الحمرِ الذي عاشَ الغفلةَ لعقودٍ، إن لم نقل لعصورٍ، لأنه كان في منأى عن أطماعِ الغزاةِ، حتى طرقَ “العالمُ المتوحشُ” بابَ غفلتهِ الساكنةَ متنكّرًا بزيّ التحضّرِ؛ فأعمِلَ الإبادةَ والقتلَ أسلوبًا لحكمِ السيطرةِ على أرضٍ لشعبٍ غفلَ عن حقيقةِ الوجودِ: أنّه صراعُ الأقوى متى كانت الغفلةُ ضعفَ الشعوبِ.
الشعبُ يَحيا الغفلةَ طريقةَ حياةٍ — وليس هو شعبَ الأدغالِ الإفريقيةِ، ولا شعوبَ الهضبةِ المنغوليةِ، ولا شعبَ بحرٍ هائمٍ تحملهُ الأمواجُ على وجهتِها لترميَه إلى شواطئَ الغرباءِ…
لا؛ إنه شعبُ الحضارةِ الأولى والتمدّنِ الأول. هو سليلُ الجبّابرةْ بناةِ سومرَ وآشورَ وآكادَ بابلَ ونينوى، أوغاريتَ أفاميا وإيبلا وجبيلَ صيدا وصورَ وعسقلانَ وحيفا ويافا وجرشَ وتدمرَ — شعبُ حواضرِ التاريخِ وشروقِ شمسِ الإنسانيةِ الأولى، ووارثُ الوجودِ العاقلِ لخطورةِ العيشِ في الغفلةِ. منذ تنبّهَ أوتنابشتمُ لطوفانِ الانحطاطِ، ووعى جلجامشُ مغزى الخلودِ في صالحِ الأعمالِ، مورِّثًا عمرانَ الحياةِ لشعبِ اليقظةِ في الوجودِ؛ فشيدَ بتنبّهِ العقلِ بناءَ الحضارةِ.
سلفُه الأولُ صاغَ حاءَ الحياةِ حركةً فشيدها حلمٌ فحرفٌ وحسابٌ؛ حقٌّ، حريةٌ وحَضارةٌ في بناءٍ وجوديٍّ عاقلٍ. حتى غَزَتْهُ الغفلةُ في وهمِ “ما وراءِ”، فركِبَ الإيمانُ سفينةً أبحرت بعالمٍ ما وراءَ الوجودِ، فحوّلت غفلَتَهُ — حاءَ الحياةِ — إلى خاءِ الخرافةِ، توأمِ الخديعةِ؛ فخاءُ الخوفِ والخنوعِ، وصولًا إلى خاءِ الخلافةِ: نظامٌ وريثٌ لوهمِ “ما وراء” في غفلةِ الشعوبِ.
وبين الوعيِ واليقظةِ في حاءِ الحياةِ الحيّةِ بالعقلِ من جهةٍ، وجهلِ الغفلةِ في خاءِ الخواءِ من كلِّ عقلٍ من جهةٍ أخرى، شعرةُ المعرفة للحقيقة رفيعةٌ: هي نهضةٌ هزّت قرونًا وأعادت دورةَ الوعيِ إلى عقاربِ الوجودِ بنظرةٍ جديدةٍ للحياةِ — يقظةٌ لا غفلةَ بعدها. فيها كلُّ حاءٍ حقٌّ، وكلُّ خاءٍ خيرٌ؛ فالجمالُ المطلقُ الوجوديُّ رسالةٌ معلمةٌ للناسِ، هاديةٌ للأممِ، قاتلةٌ للغفلةِ، موقِظةٌ الوعيَ ومنجِيةٌ حياةَ العقولِ من غفلةِ جماجمِ الشعوبِ؛ جاعلةً للعقلِ سيفًا من وعيٍ، وللغفلةِ غمدًا من جهل.




