
لم يكن لقب “سويسرا الشرق” الذي عُرف به لبنان بين الخمسينات وبداية السبعينات، يعكس موقع لبنان الاستراتيجي ومكانته الإنتاجية والخدماتية والسياحية والحضارية في المنطقة فحسب، بل كان يدلّ على أوجه الشبه بينه وبين سويسرا باعتباره مركزاً مالياً ومصرفياً موثوقاً بفضل قوانينه المرنة وسرّيته المصرفية. لكن اندلاع الحرب الأهلية في العام 1975 أدخل البلاد في نفق طويل من التراجع الاقتصادي والانقسام المجتمعي. فضربت الحرب البنى التحتية، وانهارت المؤسسات، وتبدّدت الثقة بالنظام المالي وولّى “زمن البحبوحة” وزمن “الليرة بتحكي”. وهكذا، انتقل لبنان من النعيم إلى الجحيم، إلى ساحة نزاع أنهكت اقتصاده وغيّرت وجهه لعقود.
قبل اندلاع الحرب كان لبنان يعيش بالنعيم، إذ شكّل مقصداً لكل دول العالم باعتبار أن اقتصاده حرٌّ منفتح على كل الدول. ويروي أمين عام الهيئات الاقتصادية ورئيس جمعية تجار بيروت نقولا شمّاس لـ”نداء الوطن” أن “الصادرات للواردات كانت تشكّل نسبة الثلثين”، وهي نسبة مرتفعة جداً.
يذكر شمّاس حفلات ملكة جمال أوروبا التي كانت تجرى في كازينو لبنان، والسفراء الأجانب الذين كانوا ينتظرون بـ “الدور” لاختيار لبنان مركزاً لمزاولة عملهم، وقتها كانت الليرة لها “ثقلها” وقيمتها، فكل دولار كان يعادل 2,30 ليرة، أما الدخل فيصنّف عالمياً بالمتوسّط، وتحديداً في القسم الأعلى من خانة الدول المتوسطة الدخل (متوسطة الدخل+).
تلك الوقائع جعلت من لبنان مصدر جذب للرساميل الخارجية للاستثمار في القطاعات كافة لا سيما منها الإنتاجية والخدماتية والترفيهية، ولكن بالتوازي وفي تلك الفترة أي قبل بدء حرب الـ 1975، بدأت ترد دولارات إلى البلاد وعزّزت وضع الليرة والملاءة وقتها، وكانت تَرد أموال يقول شمّاس “تحضيراً للمعارك العسكرية الآتية في حرب 13 نيسان 1975 ولاستهداف لبنان لأسباب سياسية واقتصادية محلّياً ودولياً”.
نزلات وطلعات للاقتصاد
عشيّة الحرب، وتحديداً في العام 1974، يقول شمّاس “دونت الإحصائيات ناتجاً محلّياً إجمالياً قدره 4,67 مليارات دولار، ولكن طوال فترة الحرب تحوّل الاقتصاد اللبناني من اقتصاد السلم إلى اقتصاد الحرب، فهوى الناتج المحلّي بنسبة 40 % (بين بداية الحرب حتى نهايتها) مسجّلاً 2,8 مليار دولار في العام 1990 من دون احتساب نسب التضخّم التي كانت كبيرة حتى بالدولار ومن دون احتساب أن ما “غذّى” ما تبقّى من الاقتصاد هو الإنفاق على الحرب إذ كانت كل ليلة حرب تكلّف ملايين الدولارات. فتآكل اقتصاد السلم والنشاطات المدنية إلى حدّ بعيد لمصلحة الاقتصاد الحربي.
وهكذا تدحرجت عجلة التراجع ووصل الناتج المحلي إلى قعرين عميقين من السبعينات إلى التسعينات:
-الأول، حين وصل الناتج إلى 1,9 مليار دولار خلال العام 1976 وهي السنة الثانية من حرب السنتين.
-الثاني، حين نزل الناتج بعدما تحسّن إلى 2,6 مليار دولار وذلك خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 1982 والتي كانت جزءاً من صراع أكبر بين الاحتلال ومنظمة التحرير الفلسطينية.
مقابل كل نزلة هناك طلعة، مقابل هذين الانحدارين إلى القعر شهدنا طلعتين:
الأولى، ارتفاع الناتج المحلي إلى 4,6 مليارات دولار (من 1,9 مليار دولار) في العام 1979 .
الثانية، ارتفاع الناتج المحلي إلى 4,3 مليارات دولار بعد الحرب الإسرائيلية وكل الدمار الذي لحق بالبنية التحتية اللبنانية، وذلك في العام 1984 لأن العام 1983 كان جيّداً اقتصادياً”.
مع الإشارة هنا إلى أن كل الأرقام المحتسبة في الدراسات جاءت بغض النظر عن نسب التضخّم التي كانت كبيرة حتى بالدولار.
إيجابية وحيدة
صحيح أن الاقتصاد اللبناني تمزّق وأصيب بشظايا الحرب بشكل كبير، لكن الإيجابية الوحيدة التي برزت كنتيجة لحرب الـ 15 سنة، هي انتقاله إلى اللامركزية الاقتصادية ّ، فانتشرت التجارة وغيرها من القطاعات الاقتصادية التي كانت تتركّز في العاصمة، في كل المناطق اللبنانية وتحرّكت عجلة الاقتصاد من شماله إلى جنوبه مروراً بالجبل والبقاع.
وما يستحقّ التوقّف عنده القول إن الحرب لم تؤثّر على أداء القطاع المصرفي بل بقي صامداً ويحظى بثقة الداخل والخارج والمصارف المراسلة. إلا أن الأمر السيّئ في تلك الفترة هو زيادة الدولرة في العامين 1974 و1975 بنسبة نحو 25 % وارتفاعها في ما يتعلق بالودائع على وجه الخصوص إلى حدود الـ 85 أو 90 % وهذه ظاهرة لم تكن صحيّة وترافقت مع انهيار سعر الصرف.
ماذا حلّ بالليرة؟
تأثّرت الليرة اللبنانية بالتطورات الأمنية التي عصفت بالبلاد. ويوضح شمّاس، أن العملة الوطنية تراجعت قيمتها، وانخفض سعر صرف الليرة إزاء الدولار من 2.30 ليرة للدولار قبل حرب الـ 75 إلى 2750 ليرة في نهاية العام 1992. وبذلك تكون العملة الوطنية انخفضت نحو 1000 مرّة، طوال فترة الـ 17 عاماً. بذور المشاكل إذاً التي عانينا منها في ما بعد كانت موجودة في الحرب، لم يقف أحد إلى جانب لبنان في موضوع إعادة الإعمار. وعدت دول عدة بدعم لبنان في إعادة الإعمار خلال قمم التأمت ولم يصل إلينا سوى الجزء اليسير منها. وبذلك يقول شمّاس “لم تكن أمام لبنان الفرصة لالتقاط أنفاسه من الناحية الاقتصادية وبذور الدولرة التي وجدت وقتها كلّفتنا الكثير وأوصلتنا إلى مشكلة سنتناولها في ما بعد”.
إلى ذلك يذكر شمّاس أن الصادرات التي كان يجب أن ترتفع مع انخفاض قيمة الليرة ووجود قدرة على التنافس، لم تسجّل خلال الحرب ارتفاعات، بقيت أرقام الاستيراد “عالية” لأن الصناعة الوطنية التي كانت قويّة قبل الحرب، لم تستطع تغطية حاجات السوق المحلّية بالكامل خلالها مع أنها حازت على حصص كبيرة في السوق.
“انكسرت” الليرة اللبنانية فعلياً خلال العامين 1983 – 1984 عندما خرجت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وتوقفت المساعدات الدولية بالدولار التي كانت تتلقاها من الخارج وتراجع معروض الدولار.
التصنيف وفقاً لأربعة معايير
من أصل 50 سنة (1975-2025) مرّت على لبنان شهدنا 8 سنوات جيّدة فقط وفقاً للمعايير الاقتصادية مقابل 42 سنة سيّئة. والمعايير الاقتصادية الأربعة التي اعتمدها شمّاس هي:
1-معيار النمو الاقتصادي. 2- المعيار المالي (عجز الموازنة والمديونية) . 3- مؤشّر البؤس (البطالة + التضخّم) 4- مؤشّر انهيار العملة.
وكانت السنوات وفقاً لمعايير شمّاس كالتالي:
-1991: بداية إقلاع الوضع الاقتصادي بعد انتهاء الحرب في 1990، فكان منتصف الـ 1991 جيّداً .
-1992: سنة الانتخابات النيابية التي خلقت شرخاً داخلياً وإحباطاً مسيحياً ما أثّر على الاقتصاد مباشرة وترافق ذلك مع انهيار سعر صرف الليرة إزاء الدولار الذي وصل وقتها إلى 2750 ليرة. إذاً نصفها الأول كان مقبولاً.
-1993: شهدت حرباً، فكانت سنة تصفية حسابات إسرائيل مع لبنان، ونصف تلك السنة كان مقبولاً.
-1994: سنة جيّدة اقتصادياً إذ لم تشهد حروباً.
1995: لم تكن جيدة بسبب التداعيات السياسية التي أثمرت تمديد ولاية رئيس الجمهورية وكان وقتها الياس الهراوي ولم تحصل انتخابات جديدة.
-1996: سنة “عناقيد الغضب” إذ حصل اجتياح إسرائيلي للبنان في نيسان. فلم تكن جيدة.
-1997: كان نصفها جيّداً، عقد مؤتمر “كورال بيتش” الذي نظّمه الرئيس رفيق الحريري مع بداية التعثّر المالي في البلاد.
-1998: انقسمت البلاد إلى معسكرين بسبب الخلافات السياسية. ولغاية العام 2000 لم يكن الاقتصاد جيّداً بناءً على المعايير المذكورة آنفاً.
-2001 أقلعت طائرة الاقتصاد في بداية العام من جديد. عقد مؤتمر باريس 1 بعد أن تبيّن للرئيس رفيق الحريري أن الاقتصاد لم يكن يلتقط أنفاسه ونحتاج إلى مساعدة خارجية.
-2002 لم تكن سنة إيجابية، لذلك شهدنا مؤتمر باريس2 الداعم للبنان من الدول العربية والإسلامية بالإضافة إلى الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية وكندا والصناديق الدولية. فكان استثنائياً في التدابير التي اتّخذت، وتمّ إيداع أموال في مصرف لبنان والمصارف اللبنانية اكتتبت بنسبة 10 % من سندات الدين بصفر فائدة وأعيد تقييم الذهب وشطب دين مصرف لبنان للدولة.
-2003 – 2004 انتعش الاقتصاد اللبناني ونشطت السياحة، إلا أنه في العام 2005 ومع اغتيال الرئيس رفيق الحريري تعرّض الاقتصاد لـ”صفعة”، فدخلنا في مرحلة الصعوبات الاقتصادية.
-2006 شهدنا حرب الـ 33 يوماً الإسرائيلية على لبنان التي أثّرت بدورها سلباً على الاقتصاد.
ومن الـ 2006 إلى أوائل العام 2008 شهدنا اعتصاماً في وسط بيروت لفترة عام ونصف، قضى على النشاط في الوسط التجاري وارتدّ على كل الاقتصاد اللبناني. لكن بعد منتصف العام 2008 أي بعد تسوية الدوحة وانتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، عرف صيف 2008 موسماً جيّداً .
– 2009 و 2010 كانا مميزين إذ شهد لبنان ذروة اقتصادية استثنائية، تردّد إليه السياّح العرب، واستفاد لبنان من الأزمة المالية العالمية التي أدت إلى انهيار الدول، وتدفقت عشرات المليارات من الدولارات إلى المصارف اللبنانية فشهد ميزان المدفوعات فائضاً بنسبة كبيرة .
هنا يمكن القول يا ليتنا استفدنا من الأموال الداخلة بكثرة إلى لبنان لتحرير سعر الصرف وتفادينا المشاكل النقدية التي شهدناها في مرحلة لاحقة.
-2011 بدأت الحرب في سوريا بدرجات متفاوتة، وبدأ النزوح السوري إلى لبنان الذي فاقت كلفته في ما بعد الـ 50 مليار دولار (من خلال استهلاك البنية التحتية وخسائر القطاعات الاقتصادية والمنافسة غير المشروعة مع الاقتصاد اللبناني…) وشهد الاقتصاد الوطني هبوطاً حاداً. بعدها بدأ الحظر الخليجي على لبنان الذي امتدّ لعشر سنوات. والمؤسف في فترة الإيواء والانحدار أن الكلفة العالية للنزوح لم تعترف بها دول الغرب والمجتمع الدولي، فبرز النزوح من أحد أسباب الانهيار الذي شهدناه في العام 2019.
أزمة الـ 2019
في سنة 2019، انفجرت أزمة مالية واقتصادية ومصرفية غير مسبوقة في لبنان أثمرت احتجازاً لودائع اللبنانيين وانهياراً نقدياً ومالياً فهوت الليرة إلى أرقام غير مسبوقة في تاريخ لبنان من 1500 ليرة إلى 140 الف ليرة لبنانية. وقفز التضخم إلى مستويات كبيرة.
ولا يتوقّع شمّاس أن نشهد نهضة، “لأن الدولة اللبنانية لا تملك المال لا في المصرف المركزي ولا في الخزينة والأموال التي ستردنا من الخارج مؤجّلة وسنحصل فقط على أموال إنمائية من البنك الدولي وصندوق سينشأ خصيصاً لمؤازرة لبنان تحت اسم Multi donor trust fund ويتضمن 250 مليون دولار من البنك الدولي إضافة إلى 750 مليون دولار متوقّعة من الصناديق المانحة أي ما يعادل مليار دولار وهو مبلغ زهيد أمام حجم الخسائر.”
يختم شماس:”من هنا مقولة أن لبنان انتقل من النعيم إلى الجحيم وبات منبوذاً اقتصادياً ، معزولاً خليجياً إذ تشوّهت سمعته بسبب تهريب الممنوعات، فأقفلت أبواب أسواق الخليج بأكملها أمام المنتجات اللبنانية. أما الأزمة المالية فتتطلّب حلاً بسبب عدم اعتراف الدولة بمسؤوليتها واستلافها أموال المودعين بشكل غير شرعي وممنوع شطبها وبالتالي مضطرة إلى أعادتها”.