لم يجد الاقتصاد اللبناني بعد مخرجاً لمشكلة الديون بالعملات الأجنبية التي توقف عن سدادها في شهر آذار 2020. إلا أن النموذج المنتظر الذي بدأت تظهر ملامحه من خلال مؤشرَي انتخاب رئيس الجمهورية وتكليف رئيس للحكومة، من المرجح أن يعيد لبنان إلى دورة الديون، ولا سيما في ظل أي اتفاق على برنامج اقتراض مع صندوق النقد الدولي. فالاتفاق الأولي «على صعيد الموظفين» الذي توصّل إليه لبنان مع الصندوق كان يتضمّن استدانة نحو 3 مليارات دولار على مدى 3 سنوات، ويتردّد أنه في ظل التسوية السياسية التي أتت بالرئيسين قد يرفع الصندوق مبلغ الاقتراض. كما أن الاستدانة لن تتوقف عند هذا الحدّ، إذ إن الهدف من الاتفاق مع الصندوق فتح أبواب الاقتراض من السوق الدولية.
عودة إلى نموذج التسعينيات؟
نموذج ما بعد الحرب الأهلية كان قائماً على الاستدانة. ففي عام 1997 بعد انتهاء الحرب الأهلية، كانت هناك حاجة كبيرة للتمويل، فجرى رفع أسعار الفائدة وتثبيت سعر الصرف ودولرة الاقتصاد، من أجل استجلاب الأموال من الخارج. يومها الدولة أيضاً لجأت إلى الاستدانة بالدولار عبر سندات الخزينة بالعملة الأجنبية (يوروبوندز)، ثم لاحقاً بدأت الاستدانة بالعملة الأجنبية بواسطة مصرف لبنان، الذي اقترض من السوق وأقرضها للدولة… يقول الخبير الاقتصادي نجيب عيسى إنه في تلك الفترة «كانت المؤسسات الدولية تغضّ النظر عن إحجام لبنان عن تطبيق إجراءات ضمن برامج ليبرالية مثل تحجيم القطاع العام ووقف الدعم والخصخصة وسواها»، وأن هذه البرامج كانت تصاغ «في مؤتمرات دولية لتمويل لبنان مثل مؤتمرات باريس». ففيما كان لبنان يشرف على الإفلاس، تتدخل الدول «الراعية» لإقراضه عبر مؤتمرات باريس 1 و2 و3، وغيرها. أما الآن، فإن الانهيار النقدي والمصرفي كشف عن جفاف لبنان من التمويل بالعملة الأجنبية وتبديد غالبية المدخرات في المصارف وبدأ الجميع يتحدّث عن حاجة لبنان إلى استجلاب الأموال عبر برامج يوقّعها لبنان مباشرة مع صندوق النقد الدولي بوصفه «المقرض الأخير».
يتوقّع أن يبدأ العهد الجديد بمحاولة إجراء اتفاق مع صندوق النقد بما يعنيه ذلك من عودة الى الاقتراض
يجري تصوير الوضع الحالي وكأن الخيارات اللبنانية نفدت وباتت محصورة بصندوق النقد. بمعزل عن أي نقاش في هذه المسألة، فإن العودة إلى الاقتراض بالعملة الأجنبية تعيد إحياء نموذج التسعينيات الذي أوصل البلاد إلى أزمة 2019. إذ تداخلت لعبة الاقتراض بالعملات الأجنبية مع البونزي المصرفية، ما أدّى مع عوامل أخرى متصلة بالإنفاق في لبنان وطبيعته التوزيعية في إطار الفساد الممنهج، إلى تضخّم حجم الدين العام بالعملات الأجنبية الذي لا يذكر الآن في الموازنات العامة. حالياً، استحقت كامل القيمة الاسمية وفوائد سندات اليوروبوندز التي أصدرها لبنان، وقيمتها تصل إلى 50 مليار دولار، أي ما يوازي مرتين حجم الناتج المحلي الإجمالي.
دوّامة الدين التي انخرط فيها لبنان سمحت له بالإنفاق في ظل عجز الموازنة العامّة. لكن المشكلة أن هذا الإنفاق لم يكن استثمارياً، أي إنفاقاً على البنى التحتية التي يمكن أن تُسهم في تنمية الاقتصاد. ففي مقابل كل هذه الاستدانة، لم يُستثمر في قطاع الكهرباء الحيوي جداً في عملية التنمية. لم يكن الأمر يحتاج إلى أكثر من 1.5 مليار دولار ليصبح قطاعاً عاملاً بشكل كامل يؤمّن الكهرباء لـ 24 ساعة يومياً. ولم يستثمر بشكل جدي في قطاع الاتصالات، إنما كان الأمر يتم ربطاً بتوافقات سياسية أو بتشابك المصالح الخاصة بأطراف السلطة. التسليفات المصرفية تركّزت في قطاع العقارات، حتى قال صندوق النقد الدولي في 2018 إنه يستأثر بأكثر من 90% من التسليفات، سواء بشكل مباشر أو عبر الضمانات العقارية مقابل التسليف.
صندوق النقد والديون
على أيّ حال، يتم الترويج لخيار الاتفاق مع صندوق النقد على برنامج إقراضي بقيمة 3 مليارات دولار على مدى ثلاث سنوات، كانه الخيار الوحيد المتاح. لذا، يتوقع أن يبدأ العهد الجديد بمحاولة تجديد الاتفاق «الأوّلي» الذي أعدّه صندوق النقد مع لبنان قبل أكثر من سنتين (الاتفاق لم ينتقل إلى اتفاق نهائي وتنفيذي وظلّ اتفاقاً على مستوى الموظفين). وهذا يعني العودة إلى مسار الاستدانة. أي اتفاق مع الصندوق هو اقتراض لمبلغ مالي يفترض سداده في موعده. فضلاً عن أن نموذج العلاقة مع الصندوق بحد ذاته يعني الانغماس في مسار استدانة بشكل أكبر من البرنامج بحدّ ذاته، لأن ما يروّج له هو أن حاجة لبنان إلى الاتفاق ضرورية لمنحه «ختماً» مع الدائنين الأجانب يما يتيح له «الولوج» إلى الأسواق الدولية، أي بما يتيح له المزيد من الاستدانة بالعملة الأجنبية.
من الممكن الاستدلال على هذا الأمر في النموذج المصري مع صندوق النقد، حيث تحوّل الاقتصاد المصري بعد إجراء الاتفاق مع الصندوق عام 2016 إلى اقتصاد يعتمد على الاستدانة من الخارج. في 2016، قبيل الدخول في اتفاق مع الصندوق، كان الدين الخارجي في مصر يبلغ نحو 15% من الناتج المحلّي، إلا أن هذا الرقم ارتفع بشكل كبير، حيث بلغ في الفصل الأول من سنة 2024 نحو 40% من الناتج المحلي. وقد دخلت مصر، بعد الاتفاق مع الصندوق، إلى سوق الدين العالمية، وهو ما سمح لمصر بفتح شهيتها على الدَّين الخارجي بشكل كبير. وهذا الأمر لبّته دول الخليج التي أغدقت على الاقتصاد المصري بالقروض، وأسهمت في السنوات الأولى بعد الاتفاق بحدوث تحسّن في المؤشرات، مثل العجز في الحساب الجاري الذي انخفض من 6.2% من الناتج المحلي في 2016 إلى 3.2% من الناتج المحلّي في 2017. إلا هذه النشوة لم تدم كثيراً، إذ عادت المؤشرات إلى التراجع في السنوات اللاحقة، حتى اضطرت مصر إلى العودة إلى صندوق النقد في بداية العقد الحالي، وهذا أحد نماذج السقوط في فخّ الدين في مسار الصندوق.
هل هذا هو المسار الذي يتجه إليه لبنان مجدداً؟ اللافت أن الاتفاق مع صندوق النقد سيهدف أولاً إلى إعادة هيكلة الديون التي توقف عن سدادها البلد، ليدخل لبنان في نفق الاستدانة مع الصندوق أولاً، ثم مع الدائنين الأجانب. فبدلاً من أن يرعى الصندوق مؤتمرات تمويل لبنان، سيكون هو الموقّع الرسمي على أول قرض خارجي للبلد بعد الأزمة، وهو ما سيُعدّ من قبل الأسواق المالية العالمية مؤشراً على قابلية العودة إلى الاستثمار في ديون هذا البلد المتعثّر.
المشكلة الأساسية هي أن هذه الديون لا تذهب لتموّل حلقة نموّ مستدامة، وهذا الأمر كان واضحاً جداً في النموذج المصري، الذي لم يستطع أن يخطو خطوة واحدة باتجاه استدامة اقتصاده. وهذا بحد ذاته يجعل الدخول في مسار الدين (بهذا الشكل) فخّاً يصعب الخروج منه.