اخبار عربية ودوليةالرئيسية

ربيع إفريقي جديد

جواد سلهب

▪️تعيش الولايات المتحدة الأميركية اليوم مأزقًا داخليًا عميقًا، اقتصاديًا وسياسيًا، جعلها تفقد توازنها في إدارة ملفات العالم. فالعجز في ميزانيتها تجاوز 37 تريليون دولار، أي ما يعادل نحو 120% من ناتجها المحلي الإجمالي، بينما يبلغ مجموع ذهب العالم حوالى 23 تريليون دولار فقط. لم تعد سياسة طباعة الدولار قادرة على ترميم هذا العجز كما في السابق، لأن الأسواق العالمية تشبّعت، ولأن الثقة بالعملة الأميركية بدأت تتراجع لصالح اليوان الصيني والذهب والمعاملات الثنائية بالعملات المحلية.

▪️الاقتصاد الأميركي، الذي يعتمد على الاستهلاك بنسبة تفوق 68% من الناتج القومي، يعيش تضخمًا متسارعًا تجاوز في بعض الأشهر 6% رغم محاولات الفيدرالي الأميركي رفع الفائدة. ورغم تدفق مئات المليارات من الاستثمارات الخليجية والآسيوية إلى بورصات التكنولوجيا وقطاعات الذكاء الاصطناعي (AI)، فإن هذه الأموال لم تعالج أصل الأزمة، لأن الخلل بنيوي في الاقتصاد الأميركي القائم على الدَّين والمضاربة وليس الإنتاج الحقيقي.

▪️في المقابل، لم تعد حروب الشرق الأوسط تدرّ الأرباح السياسية أو الاقتصادية كما كانت. فالمشاريع الأميركية التي استنزفت المنطقة لسنوات لم تعد تعود عليها بالنفوذ ولا بالعائدات. كما أن الدول العربية – التي كانت تدفع مليارات الدولارات مقابل الحماية أو السلاح – أصبحت أكثر وعيًا وذكاء كما قال ترامب ، فتحوّلت من الدفع مقابل الحماية إلى الاستثمار في أسهم الشركات الأميركية، خاصة تلك العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي (AI) وشركات التكنولوجيا الكبرى مثل “إنفيديا” و”مايكروسوفت” و”أوبن إيه آي”، التي تشكّل اليوم محرك الاقتصاد الرقمي الأميركي.

لكن حتى هذه الاستثمارات، رغم أنها ضخّت أكثر من 200 مليار دولار في الأسواق خلال عامين، لم تكن كافية لتغطية فجوة الديون أو كبح موجات التضخم.

▪️أمام هذا المشهد، بدأت واشنطن تعيد رسم بوصلتها الاستراتيجية نحو القارة الإفريقية، باعتبارها الساحة الجديدة للثروات الخام والنفوذ الجيو–اقتصادي. فإفريقيا تمتلك ما يزيد عن:

40% من احتياطي الذهب العالمي،

30% من المعادن النادرة الضرورية لصناعة الشرائح والبطاريات والذكاء الاصطناعي (AI) مثل الكوبالت والليثيوم والنيكل،

60% من الأراضي الزراعية غير المستغلة في العالم،

إضافة إلى احتياطيات نفط وغاز ضخمة في نيجيريا وأنغولا وموزمبيق وتشاد.

لهذا السبب، نرى تصاعد الحراك الغربي في إفريقيا، سواء عبر الانقلابات الموجّهة أو عبر الشركات الأمنية الخاصة أو من خلال أدوات اقتصادية كالبنك الدولي وصندوق النقد، في محاولة لإعادة تدوير السيطرة القديمة بأسماء جديدة.

▪️وفي السياق ذاته، تنظر واشنطن أيضًا نحو فنزويلا، التي تمتلك أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، يقدّر بـ 297 مليار برميل، كمنفذ محتمل لإنعاش سوق الطاقة الأميركي بعد تراجع إنتاج النفط الصخري وارتفاع تكاليفه.

من هنا، يمكن فهم رغبة الإدارة الأميركية في تهدئة التوتر في الشرق الأوسط. فالولايات المتحدة تدرك أن استمرار النزاعات في المنطقة يستهلك قوتها العسكرية والسياسية، في حين أن معركتها المقبلة ستكون على الثروات الإفريقية واللاتينية، حيث تسعى لمنافسة الصين وروسيا في مجالات الاستثمار، والبنى التحتية، والمعادن الاستراتيجية التي تُغذّي ثورة الذكاء الاصطناعي (AI) والاقتصاد الأخضر العالمي.

غير أن العالم تغيّر. فإفريقيا لم تعد القارة المنهوبة بصمت، وفنزويلا لم تعد الدولة الضعيفة التي ترضخ للعقوبات. إننا أمام *ربيع إفريقي جديد*، تُعيد فيه الشعوب والأنظمة الناشئة رسم خريطة المصالح العالمية، وتكسر احتكار الثروة والقرار، في مشهدٍ يؤذن بانتهاء زمن الهيمنة الأميركية الأحادية، وبداية عصر توازن دولي متعدد الأقطاب تقوده التكنولوجيا والإرادة لا الدولار والسلاح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى