ترامب يريد «ثمار» الإبادة: هندسة جديدة… من بوابة الخليج
حسين إبراهيم- الاخبار

سلسلة إشارات حملتها «مبادرات» الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قبل بدء زيارته إلى الرياض وخلالها، قد تفيد بتغيير نسبي في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، والذي أصبح للمرة الأولى، بحسب افتراض الولايات المتحدة، منطقة نفوذ خاصة لا منازع فيها، بعدما سقط من كانوا يقولون «لا لأميركا» أو تلقّوا ضربات قاسية.
والواقع أنه منذ حرب الخليج 1991، تأخذ سيطرة واشنطن على هذه المنطقة منحى تصاعدياً؛ إذ إن تلك الحرب شكّلت بداية محاولة تطويع الأنظمة المعارضة للأميركيين، حتى وإن كان التطويع نسبياً ومع استعداد في كثير من الأحيان للمساومة، فمَن لم يقبل جرى إسقاطه، وصولاً إلى الحرب المتعدّدة الجبهات التي أعقبت عملية «طوفان الأقصى»، وتبيّن أنها أميركية بأيدٍ إسرائيلية، وتعتقد واشنطن بأنها أضعفت خلالها المقاومة، وأن بإمكانها من بعدها فرض نظام إقليمي تكون هي مرجعيته الوحيدة.
فمنذ تلك العملية التي اتخذتها الولايات المتحدة ذريعة لإحكام سيطرتها على المنطقة، وقّعت الكثير من التغييرات الهائلة، والتي لم يكن لأحد أن يتوقّع أنها تحصل في هذه المدة القصيرة، بمن في ذلك الأميركيون أنفسهم. ومن بين أكثر هذه التغييرات تأثيراً، كان سقوط النظام السوري السابق، الذي وإن لم يفعل الكثير لعرقلة المشاريع الأميركية في المنطقة، إلا أن مجرّد وجوده على عقدة الطريق بين إيران وحلفائها في المقاومة، اعتُبر بالنسبة إلى الأميركيين عقبة تجب إزالتها، وإلا لما استطاع الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، ولا إسرائيل، القيام بهذه المهمة، ولما انزاحت روسيا عن الطريق، ولا كانت إيران ستخرج بعدما استنتجت أن الأمر انتهى.
مجرّد نظرة إلى نوع القضايا التي يجري التعامل معها بعد «الزلزال»، يظهر كم كان هذا الأخير كبيراً؛ فمن توقّع مثلاً أن يجري طرق باب التسوية لمشكلة كالمشكلة الكردية المستعصية منذ اتفاقية «سايكس بيكو»؟ هل كان لأحد أن ينتظر أن يلقي «حزب العمال الكردستاني» السلاح أو أن تهادن تركيا «قوات سوريا الديمقراطية» التي تعتبرها مشروعاً انفصالياً آخر على الحدود؟
ولا تمثّل «المبادرات» التي أطلقها ترامب، وما زال بعضها في طور إعلان النوايا لا أكثر، مغادرة للسياسة الأميركية الثابتة منذ عقود طويلة، والتي تقوم بتقديم المصلحة الإسرائيلية على سواها، وإنما تشير إلى افتراقٍ ما عن رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، في ملفات وديناميات من مثل الاتفاق على التهدئة مع اليمن، والتفاوض مع حركة «حماس» والذي أنتج الإفراج عن الجندي الأميركي – الإسرائيلي الأسير عيدان ألكسندر، وإعلان نية واشنطن رفع العقوبات المفروضة على سوريا، والتفاوض مع إيران على اتفاق نووي جديد.
والخلاف مع نتنياهو، الذي بدا شخصياً بعد شكوى أميركية من أن الأخير سعى للتلاعب بإدارة ترامب، لجرّه إلى تحقيق أهداف اليمين الإسرائيلي، هو في الحقيقة ناجم عن انحراف رئيس وزراء العدو عن السكة الأميركية في اتجاهٍ يضرّ بمصالح الولايات المتحدة. ونتيجة لعناد الأخير، لم يعد يظهر أن التطبيع الذي كان يُفترض أن يعلنه ترامب خلال زيارته إلى السعودية، يمثّل أولوية بالنسبة إلى الزائر الأميركي، علماً أن هذا السيناريو بات غير ممكن، على كلّ حال، في ظل استمرار المجازر الإسرائيلية في غزة والتهديد بعملية عسكرية أوسع لإعادة احتلال القطاع.
المغزى الحقيقي لجولة ترامب، يكمن في ما سيخرج منها من صفقات تريليونية
بدلاً من ما تقدّم، سيلتقي ترامب الرئيس السوري الانتقالي، أحمد الشرع، في الرياض كما قادة دول «مجلس التعاون الخليجي»، حيث سيستمع إلى مطالبة خليجية بدعم حكومة لبنان، بالإضافة إلى معالجة الكارثة الإنسانية في قطاع غزة. أيضاً، وبخلاف ما كان الأمر عليه خلال زيارة ترامب السابقة إلى الرياض قبل 8 سنوات، حين كان بعض قادة الخليج يحرّضونه على ضرب إيران، يعتمد هؤلاء اليوم سياسة تهدئة مع الأخيرة خشية أن يؤدي صراع واسع معها إلى الإضرار بأنظمتهم وبلدانهم.
ومن ناحيتها، لا تخفي إسرائيل انزعاجها الكبير من «مبادرات» ترامب، والتي تجري بعيداً عنها، ولعل الأكثر إحراجاً لها كان التفاوض مع «حماس» حول قضية ألكسندر، الذي أظهر أن نتنياهو «خارج التغطية» تماماً، وهو يعلن أن «الفضل في إخراج الأسير يعود إلى الضغط الذي يضعه جيشه على حماس في القطاع»، بينما تولّى ألكسندر نفسه التحديد إلى من يعود الفضل في ذلك، حين رفض لقاء رئيس حكومة العدو.
لكنّ المغزى الحقيقي لجولة ترامب، يكمن في ما سيخرج عنها من صفقات تريليونية، وهذه هي الدلالة الحقيقية لاقتصار جولته على السعودية وقطر والإمارات، والتي قد يعود منها بمبلغ 3 تريليونات دولار تمثّل أكثر من عشرة في المئة من الناتج القومي الأميركي كله. وكانت السعودية قد وعدت باستثمار 600 مليار دولار مع احتمال رفعها إلى تريليون، في الأصول الأميركية، ثم بزّتها الإمارات بالحديث عن 1.4 تريليون دولار، في حين أن قطر تفعل من دون الإعلان، ويبدو أنها تضع كل بيضها في السلة الأميركية الواحدة، إذا ما أخذنا في الاعتبار «الدلال» الذي يعاملها به ترامب، رغم الهجوم الإسرائيلي الشرس عليها، والذي تجدّد في الآونة الأخيرة.
وتكفي الاتهامات الإسرائيلية للإدارة، وتحديداً لستيف ويتكوف، بمحاباة الدوحة، للدلالة على ما يمكن أن تدفعه قطر «عربون ودّ» إلى الضيف. وهذا المال الخليجي كله، مجاني وغير مشروط، بعكس الأموال التي أراد ترامب تحصيلها من شركاء تجاريين مشاكسين مثل الصين وأوروبا وكندا والمكسيك، حيث واجه إجراءات مضادة دفعته إلى التراجع عن فرض رسوم تجارية مرتفعة على هؤلاء الشركاء.
ويتضح أن هذه المنطقة تظل مهمة جداً للولايات المتحدة، التي تتّجه على ما يبدو إلى تعزيز دور الدول الخليجية الثرية على حساب إسرائيل، بعدما أدّت الأخيرة دورها في الحرب الأميركية التي أوصلت الأمور إلى ما آلت إليه الآن. وسبق أن حذّر الكثير من المسؤولين الأميركيين الحاليين والسابقين، ومن كتّاب المقالات الكبار، من أن المغالاة في تأييد وحشية إسرائيل، كما ظهرت في قطاع غزة، لها ثمنها على المصالح الأميركية في الشرق الأوسط عموماً، والخليج خصوصاً، وتمثّل إحراجاً كبيراً للدول التي يُطلب منها تمويل «الحلول» لأزمات المنطقة والدفع لأميركا في الوقت نفسه. وبالتالي، إذا كانت مصلحة إسرائيل تبقى هي الموجّه الأساسي للسياسة الأميركية في المنطقة، فلا داعي لتحقيقها بالوقاحة نفسها التي يريدها نتنياهو، والتي تمدّدت لتمثّل إهانة لأميركا ورئيسها.