محمد عفيف… مدرسة في الإعلام المتجدّد
رنا الساحلي - مسؤولة قسم العلاقات في العلاقات الإعلامية في «حزب الله»
العلاقات الإعلامية مثلها كمثل هيكلية «حزب الله» التنظيمية المدنية والعسكرية. إن استهدف كبيرها وقائدها، يُستكمل العمل، فالفريق كله مدرب على تولّي أعمال عدة متفرقة ويفهم كنه عمل الهرم بأكمله ومتاهاته وخباياه. أي إنّها تقوم على العمل الجماعي الذي يحتّم على الأفراد أن يتصدوا لأي فراغ ضمن آلية محددة مدروسة مسبقاً ومنها وجود خطط بديلة تتجاوز الخط الأول والثاني من القيادات.
محمد عفيف كان مدرسة متكاملة من الإعلام المتجدد الذي لم يكن يقف عند قاعدة معينة، بل تجاوز كل المحظورات لينفتح على الجميع من دون استثناء. وفي أحلك الظروف، كان يستقبل العدو قبل الصديق لعله يجد طريقاً فرعياً للتلاقي.
بكل تأكيد، نحن تلامذة «الحاج » منذ عشر سنوات وقبلها كان لدينا مسؤولون أكفاء اعتدنا أن نلتهم منهم العمل والأسلوب وروح التفاني. لذلك بكل تأكيد الحاج محمد ترك بصمة إعلامية في قلوبنا وأرواحنا لا يمكن إلا أن تترك أثراً في طريقة إدارتنا للمتابعة. وقبل ارتقائه، كان في كل يوم عند بدء الحرب يعطينا من خبرته ويدب في أرواحنا القوة والأمل والتأكيد على أنّ الانتصار قادم في ساحات الوغى ولا بدّ من أن يسجل تاريخ الانتصارات والتضحيات التي يقدمها المجاهدون في الجبهة عبر نقلها بشفافية ووضوح وحقيقة إلى عالم الإعلام.
الإعلام الذي بتنا نتأكد يوماً بعد يوم بأنّه جزء كبير من المعركة التي تدار. وما اغتيال الحاج محمد إلا دليلاً على أنّه أوجعهم على الشاشات الفضائية الأجنبية والعربية حيث برز كالأسد الشجاع حاججهم بالمنطق والبراهين، وخلفه ركام حقدهم على المدنيين. وثاني إطلالاته كانت في منطقة طريق المطار، إذ أكد أنّ الإسرائيلي عاجز عن تدمير الحجر والبشر. لم يرهبه التهديد عند أضرحة الشهداء، فجلس أمامهم وهو يتحدى الإسرائيلي بشكل مباشر ليختمها في يوم الشهيد حيث روحه لم تتحمّل وجوده في مجمع السيد. كان هناك يخطب بالناس والمحبين، فاختنقت عبرته مرات ومرات، لكن الإباء والمقاومة طغتا على كل المشاعر، فجدّد العهد لسيد المقاومة بأنّنا مستمرون وباقون حتى النصر أو الشهادة.
منذ بداية عمليات إسناد المقاومة، تم الاتفاق على مجموعة عناصر مع سماحة الأمين العام لـ «حزب الله » أولها مقدمة البيان التي تبدأ بالآية القرآنية وصولاً الى السبب الذي هو عملية الإسناد للشعب العربي المظلوم المتروك في غزة. وقد تطورت العبارة إلى «دفاعاً عن لبنان » بعد الاعتداءات المتواصلة على الشعب اللبناني وكل شبر من أرض الوطن.
بيانات المقاومة كانت حجة قوية مدموغة بالأدلة تصل تباعاً. من غرفة العمليات التي تزود العلاقات الإعلامية بتفاصيل العملية ليهندس عباراتها الحاج وتستكمل بالدليل الملموس بفيديوهات يبثها الإخوان في الإعلام الحربي لتكون انموذجاً عن صدق المقاومة مع شعبها، ونفسها وكل من يحاول أن يشكك في قدراتها.
هي عملية متكاملة تشبه عملية الإسناد والدفاع والتصدي لتخرج إلى العلن زبدة الخبر الذي حصل، وربما امتد على مدى ساعات طويلة فيخرج بيان بأسطر عدة سطرت أحرفه أيدي المجاهدين ودماؤهم وجراحهم… ليكون للتاريخ حجة دامغة بأنّ هناك رجالاً لم يعرفوا الهوان ولا الضعف حرسوا لبنان على امتداد مساحته وسطروا أروع الملاحم ليدحروا الأعداء.
لم يكن الحاج محمد رجلاً عادياً ولم يكن مديراً أو إعلامياً مخضرماً بل كان قائداً بكل ما تعنيه معاني القيادة من إيثار وقوة وتكليف. كان يصنع الخبر ويحيك بعباراته أشرعة تمتد من البحار لتعانق السماء. كان تاريخاً من الفكر الناضب الذي يحلل ما وراء الشمس من معطيات قد لا يفهمها إلا القليل. يصيب في تحليلاته كأنه يتوقع كل ما سيجري.
محمد عفيف لم يكن يوماً مديراً بل كان ملهماً يترك لنا حرية التصرف بعدما تأكد بأنّ فريقه أهل لهذه الساحة. وقد علمنا عبر أدائه، كيف نكون كباراً ونتعالى عن الشخصانية ونستوعب من يعارضنا في الرأي.
كان إنساناً بكل ما تعنيه الإنسانية. مرهف الأحاسيس الوجدانية يبكي عند مشاعر الحب والحزن والفراق، وتراه جسوراً في المواقف التي تحتاج إلى صلابة.
اغتياله دليل على أنّه أوجعهم في إطلالاته الإعلامية
كان أمة في رجل يكاد يشبه الأمين العام، وكيف لا وهو من كان صديق شبابه تشابها في الفكر والحنان والعطف والذكاء الذي يشتعل من عينيه. حائك هو لكثير من العلاقات الإعلامية والسياسية يمد جسوراً ولا يقطعها عند الاختلاف.
محمد عفيف لم يدرس الإعلام، لكنه أتقنه حد النخاع الشوكي. كان يجري في دمه كأنه الهواء الذي يتنفّسه. لم يهدأ يوماً ولم يستكن إلا عندما أوهنه المرض مرتين: مرة أثناء كورونا، ومرة عندما أجرى عملية أدخلته المستشفى. كان يسرق لحظات الراحة ليسأل عن العمل: «حاج انت ارتاح وما عليك لو بدنا نشتغل 24 ساعة بس ناطرينك». هكذا كنا دوماً رغم أنّه لا يحب الراحة ويعلم من يفوض لكن كان دائماً يحب التأكّد بأن كل شيء ممتاز وعلى الأصول…
اعذرنا يا حاج محمد، لم نستطع أن نوفيك حقك ولو ببضع كلمات لاستكمال بيان النعي. مرات ومرات حاولنا، لكن خططنا بعض من أحرفك في ذاك البيان الذي صعب على أناملنا كتابته. تذكرنا عندما كتبت بيان السيدين. لم نستطع التحمل، عذراً، هنا سقطنا في هذا الامتحان… كان امتحاناً صعباً بأبي أنت وأمي يا قائدنا ارتجفت قلوبنا وعصرت… كيف خاطبت أميننا العام، كيف استطاعت روحك أن تحلق إليه وتعود لتكتب ما كتبت!!! لا ندري لكن ربما هي رحلة ارتحال إليه فأعادك لتستكمل مسيرة لم تتجاوز الشهرين سارعت إليه يا حاج محمد وتركتنا.
هو امتحان صعب نمرّ به، لكنّك علمتنا الإباء، علمتنا الإيثار، علمتنا العنفوان… فلا تراجع حتى إيفاء المقاومين حقهم. الانتصار قادم هو وعد الله لا شك فيه وإن استشهدنا جميعاً، لا بد من أنّنا منتصرون.
بكل تأكيد نحن سنحفظ الوصية ونحفظ الأمانة ولن نتهاون. ولن نتراجع فكبير الإعلام علّمنا أنّ لا مكان للضعف، لا مكان للتراجع، فإما النصر أو الشهادة.