أجمع كل من التقى البطريرك بشارة الراعي في روما، أن الرجل بدا مختلفاً عن زياراته الأخيرة إلى الفاتيكان. كان “التعب واضحاً عليه وكأن حملاً ثقيلاً يرهقه”، بحسب من التقوه. لكن، لم يكن هذا “التفصيل” الوحيد الذي توقف عنده المتابعون للزيارة، وقد كانوا كثراً هذه المرّة. وتنقل شخصية، شاركت في مناسبة تقديس “الإخوة المسابكيين”، عن أحد المقربين من الراعي قوله: “هي الزيارة الوداعية للبطريرك”.
تلميح أم تصريح فاتيكاني؟
ليست المرة الأولى التي يُنقل فيها كلام عن استقالة البطريرك ولا عن ملاحظات لدى الكرسي الرسولي حول أداء الكنيسة في لبنان. لكن مصادر متقاطعة تؤكد لـ”المدن” أن “البطريرك سمع عتباً وصل حد الانتقاد، وساد جوّ من التوتر بينه وبين أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين، على خلفية أداء الكنيسة على أكثر من مستوى كنسي وإداري و”مسلكي”، ليس آخرها كيفية التعاطي مع أوضاع القرى المسيحية الـ15 التي تتعرض في الجنوب للاستهداف والتي نزح أهلها ولم يشعروا أن الكنيسة قامت بمبادرة جدّية للوقوف إلى جانبهم، معنوياً أولاً”.
لكن تنقسم المصادر بين من يؤكد أنه “تم التلميح للراعي بوجوب الاستقالة”، وبين من يجزم أن “الطلب كان مباشراً وصريحاً تحت أعذار مختلفة منها التعب والعمر”.
يشار إلى أنه ليس من عمر محدد لاستقالة البطريرك، فهو ينتخب “لمدى الحياة” إلاّ إذا استقال، في حين يتقاعد المطارنة الموارنة عن عمر الـ75عاماً، إلأّ إذا مُدد لهم لاعتبارات تتعلق بظروف خاصة.
الراعي والاستقالة
يستصعب العارفون بشخصية البطريرك الراعي وبـ”محيطه” أن يبادر إلى الاستقالة، “خصوصاً متى كان طلب الفاتيكان تمنياً لا يتضمن إصراراً”. والفاتيكان تعرف جيداً كيف تصّر في طلبها. وهي التي سبقت أن فعلت ذلك مرتين. المرّة الأولى في عهد البطريرك أنطوان عريضة حين أوفدت زائرين رسوليين إلى بكركي، والثانية في عهد البطريرك انطونيوس خريش، حين عينت زائراً رسولياً، فاستقال خريش.
ويقال، إن البطريرك نصرالله صفير استقال قبل أن يسمح للفاتيكان بتعيين زائر رسولي على بكركي.
و”الزيارة الرسولية” إجراء يشل صلاحيات البطريرك المطلقة على كنيسته بصفته “رئيس الرؤساء”. وهو إجراء لا تحبّذه الكنائس الكاثوليكية المحلية، ولا حتى الفاتيكان، لكنه “إجراء الضرورة” من وجهة نظر فاتيكانية.
لذا، تُرجح المصادر ألاّ يسمح الراعي بالوصول إلى هذه المرحلة. وهو سيفعل كسلفه صفير فيستقيل متى شعر أن الكرسي الرسولي يريد ذلك بحزم. لكنه إلى الآن يستفيد من بعض “تحفظ” لدى الفاتيكان على الدفع باتجاه الاستقالة، بسبب الظروف القاهرة في لبنان، وبدرجة أقل، بسبب الشغور في رئاسة الجمهورية.
التقط الراعي الإشارات الواضحة من الدوائر الفاتيكانية، في حين لم يرشح أي معلومات عن لقاء الراعي بالبابا. لكن مصادر كنسية تؤكد أنه “بحسب عمل الكنيسة الرومانية وأسلوبها، فإن البابا يتحدث في العموميات ويحاول الإضاءة على الإيجابيات ويُلمح، من دون أن يُجرّح، إلى ما يعتبره خطاً أو خللاً أو تقصيراً، وهي سياسة متبعة، عادة، مع كل رؤساء الكنائس”.
عن الاقتراع والاختراع
فيما يكثر الهمس، منذ فترة غير قليلة، عن استقالة محتملة للبطريرك الراعي، ينبري معظم المطارنة، المستوفين للشروط القانونية، إلى تقديم أنفسهم كبديل “منقذ”.
فلا ضير، في السياق، من استعادة عبارة للمونسنيور ميشال حايك رددها مرتين عشية انتخاب البطريرك خريش وعشية انتخاب خلفه البطريرك صفير. قال: “المهم اليوم هو الاقتراع وغداً الاختراع”… اختراع دور متجدد لكنيسة وجماعة أعطيت “مجد لبنان” النازف والسائر اليوم كالأعمى والمخلع، ينتظر أعجوبة تقول له “قم، لقد شفيت”.
وتذكُّر المونسنيور الحايك والكلام عن البطريركية يستحضر بعض رؤيته للبطريركية المارونية والموارنة. يقول: “بمجرد إنشاء بطريركية مستقلة، اقترف الموارنة تمرداً بجرأة غير معقولة، ليس فقط لأنهم اتخذوا بطريركاً من دون اللجوء إلى إذن الامبراطور البيزنطي أو الخليفة الأموي، بل لأنهم رفضوا طلب فرمان تعيين من أي كان. وهذا الرفض تمسكوا به منذ خلافة الأمويين وحتى السلطنة العثمانية. هذا التصرف المخالف للقوانين الذي تجدد في خلال 12 قرناً يحدد كفاية طبعهم ومشروعهم وقدرهم. هذا القدر، كقدر الأرض، كان نزاعاً “أبدياً” للحصول، أو في بعض الأوقات للحفاظ، أو لفرض، أو إلزام الآخرين الاقتناع بالحق في الإختلاف”.
…في الاستشهاد ما يُغني عن أي إضافة.