نزل مفتي الجمهوريّة الشيخ عبد اللطيف دريان على خاطر معراب والصيفي اللتين أزعجتهما تغريدات المفتش العام المساعد لدار الفتوى الشيخ حسن مرعب، فقرّر كمّ أفواه المشايخ ومنعهم من التعبير عن آرائهم ومواقفهم السياسيّة
الرسالة التي أوصلها رئيس حزب القوات اللبنانيّة سمير جعجع إلى دار الفتوى، احتجاجاً على مواقف المفتش العام المساعد لدار الفتوى الشيخ حسن مرعب من حزبه وحزب الكتائب على خلفية موقفيهما من الحرب على غزة والمقاومة ضد العدوّ الإسرائيلي في فلسطين ولبنان، لم تمرّ مرور الكرام. أيقظت الرسالة مفتي الجمهوريّة الشيخ عبد اللطيف دريان من كبوته. فرغم أن «سماحته» لا يُحرّك ساكناً أمام الظروف المعيشيّة السيئة لأئمة المساجد والقضاة الشرعيين، وأمام تداعيات الأزمة على المؤسسات التابعة لدار الفتوى وأوقافها، ولم تحرّكه الأحوال المتردّية معيشياً وسياسياً للطائفة السنيّة، إلا أنه انتفض لإسكات المشايخ و«كبت أنفاسهم» كُرمى لعيون سمير جعجع وسامي الجميل. وللتذكير، الأول مدان بقتل رئيس حكومة سني، والثاني جهر منذ أسبوع بأن إسرائيل لا تعتدي على لبنان إلا دفاعاً عن النفس!لم يهن «زعل» جعجع على المفتي، فأصدر قراراً بقمع المشايخ ومصادرة آرائهم، في بيانٍ وزّعه المكتب الإعلامي الجمعة الماضي، وفيه أنه «بناءً على توجيهات مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، يمنع منعاً باتاً الإدلاء بتصريحات أو مواقف وآراء سياسية لجميع العاملين في الجهاز الديني والمؤسسات التابعة لدار الفتوى دون أخذ الإذن الخطّي المسبق من المديرية العامة للأوقاف الإسلامية والإدارات المعنية المختصة»، لافتاً إلى أنّ مفتي الجمهورية و«دار الفتوى لا تتبنّى أيّ رأي سياسي لا يصدر عنها مباشرة وترفض أيّ موقف يؤدي الى الفتنة أو الخلاف بين اللبنانيين».
طلبت دار الفتوى من الشيخ مرعب مسح تغريدات ينتقد فيها حزبَي القوات والكتائب
البيان صدر في اليوم نفسه الذي نشرت فيه «الأخبار» معلومات عن رسالة شديدة اللهجة وجّهها جعجع إلى دريان على خلفيّة مواقف مرعب. وتشير المعلومات إلى أنّ المسؤول الإعلامي في الدار خلدون قوّاص اتصل بداية بالشيخ مرعب، ناقلاً إليه رغبة المفتي بمسح كلّ التغريدات التي ينتقد فيها مرعب، جعجع ورئيس الكتائب النائب سامي الجميّل، فرفض مرعب طالباً التواصل مع المفتي لإقناعه بوجهة نظره. إلا أن دريان لم ينتظر الاتصال من الشيخ الذي يُعدّ أحد المقرّبين إلى دائرة «عائشة بكّار»، بل سارع إلى توزيع البيان.
مرعب رفض التعليق على قرار المفتي، مكتفياً بتغريدةٍ على صفحته على منصّة «اكس» أكّد فيها «أننا لا ننكسر، نموت أو ننتصر»، ونقل عنه مشايخ أنّه لن يتمرّد على قرار دار الفتوى، لأنّه «حريص على موقع الإفتاء». فيما اعتبر مشايخ تحرّك دريان بناءً على رغبات الجميّل وجعجع «معيباً في حق الطائفة»، لافتين إلى أنه لم يسبق أن طلبت دار الفتوى، في السنوات السابقة، من بعض المشايخ تهدئة خطابات كانت تؤجج الخلاف السني – الشيعي الذي كاد يشعل البلد في أكثر من مناسبة.
دار الفتوى التي يفترض أنها صوت الأمة وضميرها، ومركز بلورة الوعي السياسي المجتمعي في الشارع السنّي على مرّ المراحل السابقة، والتي كان يُرجى أن تستغلّ اللحظة الفلسطينية الراهنة لإعادة الطائفة السنية إلى موقعها الطبيعي تاريخياً بعد محاولات كثيرة لسلخها عن الأمة وقضيتها المركزية، قرّر دريان على ما يبدو أن يخضعها لإرادة جعجع، الساعي منذ «إقالة» سعد الحريري إلى وراثة طائفته وجمهوره. وقد لا يبدو غريباً، والحال هذه، أن يطلب رئيس حزب القوات، من الآن وصاعداً، فرض رقابة مُسبقة على خُطب أئمة المساجد، وربما تمريرها أوّلاً على «دائرة الاعلام والتواصل» في حزبه!
فصل خطيب مسجد!
حملة إسكات المشايخ وكبتهم طاولت أيضاً إمامَ وخطيبَ «مسجد أنس طبّارة» الشيخ حسن يموت الذي ركّز في خطبة الجمعة على زيادة الضريبة على الرسم البلدي. فما إن انتهت الخطبة حتّى تلقّى يموت اتصالاً من المدير العام للأوقاف الإسلامية الشيخ محمّد أنيس الأروادي أبلغه بقرار عزله عن الخطابة مدى الحياة. القرار الذي لاقى ردود فعل عبر مواقع التواصل الاجتماعي سرعان ما جرى التراجع عنه، وهو ما يؤكّده يموت في اتصالٍ مع «الأخبار»، لافتاً إلى أنّه «تم إبلاغي التراجع عن القرار وذلك بعد تدارك الأمر».
وكانت الخطبة قد تطرّقت إلى الإعفاءات الضريبيّة التي تناولها بعض الشخصيّات، وتقصّد يموت الغمز من قناة النائب نبيل بدر، من دون أن يسمّيه مكتفياً بالحرفَين الأوّلين من اسمه وشهرته، ما أغضب بدر الذي سارع إلى الاتصال بالمعنيين في دار الفتوى. ويؤكد مشايخ أنّ قرار العزل كان شفهياً وقد أبلغه الأروادي إلى يموت خلال الاتصال بينهما، من دون أن يصدر بطريقة رسميّة.
مع ذلك، يوحي هذا الأداء داخل المؤسسة الدينيّة بالشموليّة التي يُريد دريان فرضها على المشايخ، ليكونوا جميعاً «على المسطرة» تحت طائلة الفصل والإجراءات العقابيّة، وهو ما يفعله دريان مع القضاة الشرعيين، إذ يُمارس رئيس المحاكم الشرعيّة السنيّة الشيخ محمّد عسّاف ضغوطاً على القضاة لتوقيع بيانات دعماً لقرار التمديد لدريان، تحت طائلة العقاب الذي ناله أكثر من قاضٍ، وآخرها إحالة القاضي الشيخ عبد العزيز الشافعي إلى مجلس التأديب لأنّه أعدّ دراسة قانونيّة متعلّقة بالقرار القضائي الصادر في موضوع وقف البر والإحسان.
في الخلاصة، تتحوّل دار الفتوى رويداً رويداً من مركزٍ سياسي سنّي جامع إلى حديقةٍ خلفيّة لبعض السياسيين الذين قرّروا تخليص حساباتهم مع بعض المشايخ، مستندين إلى إصرار «سماحته» على إحكام قبضته على المؤسسة الدينية!