الراعي في قداس مار مارون: من تضحيات السياسيّين تقوم لنا دولة قادرة
لفت البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في عظته خلال قداس عيد مار مارون، في كنيسة مار مارون في الجميزة الى أن “الاحتفال بعيد القدِّيس مارون أبي الطائفة المارونيّة، عيدًا كنسيًّا ووطنيًّا، جميل بحضو رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري، وجميع المؤمنين الذي جاؤوا لابتهال الله، بشفاعة القدِّيس مارون، من أجل الاستقرار والنهوض في وطننا لبنان، وفي بلداننا المشرقيّة. كما جئتم تكرّمون الطائفة المارونيّة لفضلها التاريخي في قيام لبنان عبر مسيرة طويلة من الصمود والجهود والتضحيات، والتعاون مع المكوِّنات الوطنيّة الأخرى العزيزة”.
وأشار الى أن “القدِّيس مارون، الناسك في العراء على تلّة من منطقة قورش، بين انطاكية وحلب، “حبّة حنطة” مات في الأرض بالتضحية والتفاني هناك سنة 410، فوُلدت منه الكنيسة المارونيّة، ديرًا على ضفاف العاصي أوّلًا، ثمّ كبرت ونمت وأمّت جبل لبنان من جهَّتَي العاقوره، وجبّة بشري، وراحت تنتشر على الأرض اللبنانيّة، جبلًا ووسطًا وساحلًا، من الشمال إلى الجنوب، بقيادة بطاركتها العظام، بدءًا من القدِّيس يوحنا مارون، بانين مداميك صلبة في بنيان هذا الوطن”، موضحا أن “العيد لا يقتصر على مباهجه، بل يتعدّاه إلى معانيه ومقتضياته في حياتنا. وأهمّها التحلّي بفضائل القدّيس مارون وروحانيّته، فنختصرها بثلاث هي: الصلاة التي كانت تُدخله في اتّحادٍ عميق مع الله، وتنقّي عقله وقلبه من كلّ ميل إلى الخطيئة والشّر، وتملأه حبًّا وعطفًا وحنانًا نحو الجميع؛ روحُ التوبة بالتقشّف التكفيري عن خطاياه وخطايا الناس؛ التجرّدُ الكامل من الذات وخيرات الدنيا”.
وذكر أن “في هذه الثلاث عاش تلاميذ القديس مارون تابعين نهج “حبّة الحنطة” التي أثمرت الجماعة المارونيّة طائفةً وكنيسة وأمّة. فتفاعلت مع مجتمعها العربي ومحيطها الإسلامي في حوار الحياة واللغة والمصير، ومع مختلف الكنائس في حياة مسكونية على أساس المحبة في الحقيقة، ومع دول الانتشار في الاغناء والولاء. وهي في كلّ ذلك تحملهوّيةً ورسالةً أنطاكية – سريانية وخلقيدونية كوّنتا ثقافتها التي كتبتها على أرض لبنان فأغنته، وجعلت منه وطنًا روحيًّا لموارنة العالم، على تنوّع جنسيّاتهم”.
وأضاف الراعي: “بشركتها الدائمة مع الكرسي الرسولي الروماني، انفتحت الكنيسة المارونيّة على الغرب، ونهلت من مقدّراته العلميّة والفكريّة، ودخلت آفاق الإنسان والتاريخ والعالم، وفي عمق التراث الإنساني. فتخلّصت من الانعزاليّة، واعتمدت الحقيقة والحريّة. وبفضل مدرستها في روما، التي تأسّست سنة 1584، بنت جسرًا ثقافيًّا متبادلًا جمع بين كنوز الشَّرق وكنوز الغرب. وقاد البطاركة الموارنة هذه المسيرة المارونيّة، برسالتها الكنسيّة والوطنيّة، حتى إعلان دولة لبنان الكبير في أوّل أيلول 1920، على يد البطريرك الياس الحويك الذي ترأَّس الوفد اللّبناني إلى مؤتمر فرساي بباريس للسلام، بعد سقوط الأمبراطوريّة العثمانيّة. فكانت بكركي، مركزًا روحيًّا فريدًا في الشَّرق الأوسط. الكلُّ يتطلّعون إلى قيادته وتوجيهه لجمع الشَّمل”.
وأكد أن “بكركي من الأهميّة بحيث إذا خرب لبنان، وبقيت هي سليمة معافاة وقويّة، ماسكة بيد من حديد بزمام دعوتها التي انبطت بها، فباستطاعتها وحدها أن تعيد إعمار لبنان. أما لا سمح الله، إذا وهنت بكركي أو حلّ بها سقم ما، فلبنان وحده لا يستطيع إغاثتها كي تستعيد عافيتها”، متسائلا: “أيّ مؤسسة أخرى في لبنان يصحّ فيها هذا القول؟ إذا قدّرنا ماذا يعنيه لبنان تاريخيًّا ومشرقيًّا، تجلّى لنا مركز بكركي الفريد، وتبعتها العظمى، في لبنان والشَّرق الأوسط”.
وأوضح الراعي أنه “من تضحيات المسؤولين السياسيّين، تقوم لنا دولة قادرة ومنتجة، ووطن محبوب من شعبه، غنيّ بتراثه، ومعتزّ بتاريخه. إنّ هذه التضحيات كفيلة بمواجهة التحدّيات. وأوّلها تعزيز العيش المشترك كتجربة لبنانيّة نموذجيّة مميّزة بنمط الحياة الذي يؤمّن فرص التفاعل والاغتناء المتبادل، ويحترم الآخر في تمايزه وفرادته وثقافته، ويتشارك معه في حكم الشأن الوطني وإدارته. وثاني التحديات بناء دولة ديموقراطية حديثة تحمي صيغة العيش المشترك، وتوفّق بين المواطنة للأفراد والتعدّدية للجماعة. لقد أعلنت الكنيسة المارونيّة في مجمعها البطريركي (2003-2006) إيمانها بمثل هذه الدولة وحدّدت مقوّماتها بأربعة: التمييز الصريح، حتى حدود الفصل، بين الدين والدولة، بدلًا من اختزال الدين في السياسة، أو تأسيس السياسة على منطلقات دينيّة لها صفة المطلق. الانسجام بين الحرية، التي هي في أساس فكرة لبنان، والعدالة القائمة على المساواة في الحقوق والواجبات، التي من دونها لا يقوم عيش مشترك. الانسجام بين حقّ المواطن الفرد في تقرير مصيره وإدارة شؤونه ورسم مستقبله، وبين حقّ الجماعات في الوجود الفاعل على أساس خياراتها. والانسجام بين استقلال لبنان ونهائيّة كيانه، وبين انتمائه العربي وانفتاحه على العالم”.