
في الروحِ آلامٌ، وفي الأنفاسِ أنينُ آهاتٍ، كالنذيرِ يُسابقُ هولَ الفاجعة.
وطنٌ يُسحَبُ من تحتِ أقدامِنا، وجرادٌ من الغرباءِ يَسْبون ترابَنا.
سوريانا، عفوَكِ؛ أنَّ حرابَنا في صدورِنا تُسَلّ، ومناجلَنا فوق أعناقِنا تُسَنّ.
مواسمُنا اليبابُ قَحْلٌ، وبيادرُنا الخواءُ مَحْلٌ، وأوجاعُنا زادٌ نقتاتُه، والخيبةُ رفيقةُ أرواحِنا المعلَّقة بين قمّةِ البقاءِ وهُوّةِ الفناء.
فأيُّ بلاءٍ يا بلادي ابلِيناكِ به؟
وأيُّ ويلٍ أنزلناه عليكِ؟
كذا أزَّ النِّبالُ في الآهاتِ صرخةً:
“فلتَخْرَس يا نذيرَ الشؤم! ها هنا، في هذا الوجودِ، لا بديلَ عن هذه البلادِ ولا مثلها مثيل. لابدّ أن يُدَقَّ النفير، لا تملُّقًا ولا محاباةً، ولا تجميلًا لواقعٍ ثقيلٍ لئيم، كلُّ ما فيه يجعلُنا نظنُّ ـ إثمًا ـ أنّنا بلا حولٍ ولا قوّة.”
لا تُبالوا بكلِّ ما فيه… تعالوا.
تعالوا نُدرِك ما فينا من قوّةٍ لو فُعِّلَت لأضاءت نورًا لمِشعلِ الأمل، وعلى هَدْيِه بإيمانٍ نسير.
تعالوا؛ فما وضعنا وطنَنا يومًا تحت أقدامِنا كي يُسحَبوه.
هو تاجُ الرؤوس؛ نرتفع فنرفعه، نعتلي أدراجَ المجد، فيَعلو ويَسمو ويَرتدُّ كلُّ دخيل.
تعالوا… فَجُّوا أرواحَنا نَفَسًا اسمُه وطن؛ سوريانا في وَتينِ قلوبِنا نَبْض.
تعالوا يا بني قومي؛ فنحن العارفون أنَّ الأوطانَ تُفتقَدُ إن سُبِي التراب، لأنّ للترابِ عِزَّةَ الأنوف. لكن سوريانا لا تُفقَد مهما جارَت الأزمنةُ عليها.
فَهيِّ المثالَ للحقيقة… بل قُل: الحقيقةُ مطلقة؛
بوحدةِ الجغرافيا رَغْمَ الحدودِ المُصطنعة،
وبوحدةِ التاريخِ رَغْمَ الفِتَنِ المُفرِّقة،
وبوحدةِ الحضارةِ رغم التشويهِ والتزويرِ والتهشيم،
وبوحدةِ الإنسانِ رغم أنّه هو المفقودُ الوحيد اليوم… وهو الذي يُفتقَد.
نعم، من يُفقَد ويُفتقَد ليس الوطن، إنما إنسانُ الوطن.
فسوريةُ مثلُنا الأعلى، حقيقةٌ مطلقة، رغم تعرُّضِها مرارًا وتكرارًا للتجزئةِ والاحتلال؛ إلا أننا لا نفقدُها، كوطنٍ بَقِيَ ويبقى رغم عشرةِ آلافِ عامٍ من الجور، وبَقِيَ ويبقى انتماؤنا أننا سوريون ومن أمّةٍ تامّة.
من يَغيب هو الإنسان… فلا تكونوا الغائبين.
ومن يفتقد هو الإنسانُ يوم يفقدُ انتماءه لوطنِه وأمّتِه… فلا تكونوا المفقودين.
يغيبُ الإنسانُ ونفقدُه يوم ينقطعُ واقعُه عن جذورِه، فيمضي إلى مستقبلٍ هويّتُه فيه أنه يبحثُ عن وطنٍ بعيدٍ عن جذوره. وقد يغيبُ الإنسان، ويفقدُ جيلٌ أو اثنان أو أكثر… لتبقى لجيلٍ من المُدرِكين ولأجيالِنا القادمة سوريةُ ـ سوريانا ـ الوطنُ الحقيقة، التي أودعها التاريخُ في رَحِمِ الجغرافيا، لتبعثَ حياةً في ولادةٍ متجدّدة، نهضة حتمية نتيجةً لانتصارِ الحقِّ في صراعِ الوجود، سوريانا وطنٌ من خلود.
لم يكن زمانًا واحدًا ذاك الذي جارَ على سورية، بل أزمنةٌ تعدّدت وتنوّعت بأشكالِ الجَورِ من القسوةِ والظلم.
ولولا أنّ سورية أمّةٌ فوق عاديّة، ووطنٌ أكثر من ممتاز، لما كانا الحقيقةَ التي فرضت نفسها على هذا الوجود… ولم، ولن تزول.



