اخبار محليةالرئيسيةمجتمع ومنوعات

سوء إدارة للقطاع متزامن مع فشل رسمي: مليار متر مكعّب عجز لبنان المائي

فؤاد بزي - الاخبار

أهملت السلطة السياسية في لبنان قطاع المياه منذ 50 سنة، أقلّه منذ عام 1975. ورغم كلّ الإشارات التي كانت تدلّ على اقتراب كارثة الجفاف، ونفاد المياه من الخزانات الطبيعية كالآبار الجوفية، وتراجع كميات المياه السطحية في الأنهار والعيون، وصولاً إلى تضاؤل كميات الأمطار المتساقطة، إلا أنّ الحكومات المتعاقبة فضّلت سياسة «دفن الرأس في الرمال»، إذ تعاملت مع الموضوع بخفّة وتركت مشاريع المياه الكبيرة مثل إنشاء السدود والبحيرات المُستخدمة للتخزين، فريسة للنكد السياسي، مثل سدّ بسري، أو فشلت في تأمين التمويل مثل سدّ المسيلحة الذي لم يُستكمل.

ومن سلوكها أيضاً أن تقوم بعزل غير مبرّر لمسؤولي مؤسّسات المياه في عزّ الأزمة، مثل طلب وزير الطاقة جو الصدّي، عزل رئيس مصلحة مياه بيروت وجبل لبنان جان جبران.

عمق الكارثة
أجمعت ثلاثة تقارير صدرت بشكل منفرد عن «إنمائية» و«فنك واتر» و«إيكو هاب»، على وجود نسبة هدر غير مسبوق عالمياً في شبكة توزيع المياه الرسمية في لبنان يصل إلى 50% في بيروت، و65% في القرى الأبعد، مقارنة مع المعدّل العالمي المقبول 4%.

بمعنى أوضح، نصف كمية المياه التي تُضخّ في الشبكة، يتسرّب إلى الطرقات وباطن الأرض. وتقول «إنمائية» إن السلطة السياسية أهملت كلّ الإشارات المقلقة، مثل انخفاض مستوى 12 نهراً رئيسياً في البلاد بنسبة 23% مقارنةً مع مستواها عام 2015، وتراجع غزارة 60 ينبوعاً موسمياً بنسبة 50%.

واكتمل مشهد الكارثة المائية هذه السنة، مع المعطيات الصادرة عن مصلحة الأرصاد الجوية في مطار بيروت، والتي تفيد بأن كميات الأمطار المتساقطة تراجعت بنسبة 55% في موسم الشتاء الماضي. كذلك تقول مصلحة الليطاني إن كميات المياه في الخزانات الرئيسية مثل بحيرة القرعون تراجعت من 183 مليون متر مكعب في تموز 2024 إلى 63 مليون متر مكعب في تموز 2025.

أيضاً تقول مصلحة مياه البقاع إن مستوى المياه في الآبار الجوفية انخفض إلى أكثر من 40 متراً في المناطق البقاعية، ما أدّى إلى ارتفاع كلفة سحب المياه منها وارتفاع نسبة مستوى ملوحة المياه.

هذا المشهد بكل ما يمثّله من كارثة، إلا أنه ليس أمراً مستجداً على لبنان. مواسم الجفاف وتراجع كميات الأمطار تتكرّر دورياً.

فبحسب أستاذ الموارد المائية والري والصرف الصحي داود رعد «سجّلت محطّة رصد كميات الأمطار المتساقطة في الجامعة الأميركية، هطول 393 ملّمتراً من الأمطار سنة 1932 مقارنة مع معدّل عام يساوي 844 ملّمتراً». هذا يعني أن دورة المياه في لبنان ليست بحالة وفر دائم، وهو ما يميّز لبنان، حيث «لا تتجانس كميات الأمطار لا في المكان ولا في الزمان» وفقاً لرعد. إنّما «الأمطار هي المصدر الوحيد للمياه في لبنان، وهي المسؤولة عن تغذية الأنهار والآبار الجوفية».

تصل نسبة الهدر في شبكات المياه الرسمية إلى 50% في بيروت و65% في القرى الأبعد

لكنّ الواقع المأساوي يتكرّر هو أيضاً. ففي مقابل التدهور الكبير في إدارة المياه، ثمة ازدياد في الحاجات الاستهلاكية. وفقاً لدراسات عميد كليّة إدارة الأعمال في جامعة المعارف بسام همدر «يبلغ عدد المقيمين على الأراضي اللبنانية 7 ملايين شخص تقريباً، ويصل إجمالي حاجات لبنان من المياه 3.6 مليارات متر مكعب سنوياً».

ويقسّم همدر هذه الحاجات إلى 1.2 مليار متر مكعّب لازمة للاستخدام المنزلي، و2 مليار متر مكعب للزراعة، و400 مليون متر مكعّب للصناعة. في المقابل، يقول همدر إن الكمية المتاحة من المياه تصل إلى 2.6 مليار متر مكعّب وفق «تقدير إيجابي»، ما يرفع العجز المائي السنوي إلى مليار متر مكعّب.

وبسبب غياب الاستثمار الحكومي في قطاع المياه، لجأ الناس إلى الحل الأسهل: الآبار الجوفية. وقد ازداد عدد هذه الآبار إلى 20 ألفاً، وفق همدر، ومعظمها غير قانوني.

ويلفت إلى أن الاستخدام العشوائي لهذا المورد «أدّى إلى نضوبها هي أيضاً، وإلى انخفاض مستويات المياه فيها بمستويات تصل إلى 60 متراً، إذ كان يكفي حفر 40 متراً للوصول إلى الماء، أما الآن، فتصل الحفارات إلى عمق 100 متر لإيجاد المياه».

تغييب الاستثمار
رغم سوداوية المشهد، إلا أنّ الحلول موجودة. يجمع الخبراء على أن الحلّ بيد الحكومة، لأنّه يقوم على المشاريع المائية الكبيرة، مثل إقامة السدود والبُرَك وإعادة بناء شبكات التوزيع من جديد، وإلاّ سيواجه ما تواجهه منطقة غرب آسيا، وهو الجفاف الحادّ. بالنسبة إلى همدر، يمكن ردم هوّة العجز المائي ابتداءً من مشاريع نهر الليطاني المختلفة. فهذا النهر ينبع من لبنان ويصبّ في لبنان «ومشاريعه لو اكتملت ستوفّر 800 مليون متر مكعّب إضافية من المياه سنوياً».

ويضيف: «في حال تمّت صيانة الشبكات أيضاً، سنصل إلى وفر مائي، لأنّ الهدر فيها يتجاوز نسبة 40%». كما يلفت إلى ضرورة تدخّل الدولة الجدّي في قطاع الآبار الجوفية، إذ يجب تنظيمها لأنّها خزان المستقبل. «أما إذا تُركت الأمور على حالها، فنحن ننتحر لأنّ الأمر خطير جداً» يقول همدر.

وفي سياق الحلول المُقترحة وتقصير الدولة، يلفت المدير العام السابق للتجهيز المائي والكهربائي محمد فواز، إلى أنّ «إدارة المياه بحاجة إلى إعادة بناء وتجهيز، ويجب إعادة العمل بتشكيل احتياط مائي ببناء البرك والسدود، فضلاً عن إعادة العمل بالنصوص القانونية التي تجعل من الماء ملكاً عاماً للدولة لا يُعطى لأحد حقّ الاستثمار فيه أو استعماله». وبحسب داود فإن «السدود هي الحلّ الأكثر عقلانية والأقل كلفة، ولكن كلّ السدود التي أُنشئت حديثاً لم ينته العمل منها».

فعلى سبيل المثال، تواجه قبرص منظومة مناخية مماثلة للموجودة في لبنان، إلا أنّ مشاريع السدود والبرك فيها، أبعدت شبح الجفاف عنها، فضلاً عن مشاريع إعادة تكرير مياه المجاري الصحية واستخدامها للري. فالمياه المُستخدمة للري تشكّل ما نسبته 70% من إجمالي كمية الماء المخصّصة للاستخدام.

«كان سدّ المسيلحة في الفترة التجريبية حين أوقفت الدولة تمويل الشركة الملتزمة بأعمال بنائه، ما أدّى إلى عدم إقفال كلّ ثقوب تسريب المياه وعدم تسليمه جاهزاً». وفي ما يتعلق بمشروع سدّ بسري، يعتقد داود أنّه «الحل الوحيد لإيصال المياه إلى بيروت ومحيطها حيث يسكن 70% من سكان لبنان». أما المياه الجوفية، فالمقبول منها للضخ والاستخدام، 80% منها ملوّثة، عدا كلفة استخراجها العالية.

«الوزاني» دليل الإهمال الرسمي
في إشارة إلى عدم جدّية الدولة في التعامل مع ثروتها المائية، يشير عميد كلية إدارة الأعمال في جامعة المعارف بسام همدر، إلى مشروع الوزاني بوصفه دليلاً على الإهمال الرسمي، إذ يستفيد لبنان من أقل من 4 ملايين متر مكعّب من المياه سنوياً رغم أن القوانين الدولية تمنحه الحقّ بكميّة تُقدّر بـ30 مليون متر مكعّب من المياه سنوياً.

وبحسب همدر، قبل الحرب الصهيونية الأخيرة على لبنان، كانت ذريعة الامتناع عن عدم سحب كامل حصّة لبنان بـ«عدم وجود مضخات جديدة، لأن التوربينات قديمة وتعود إلى سبعينيات القرن الماضي». وطوال 18 سنة من عام 2006 لغاية 2024، لم تقدم الدولة اللبنانية على تجديد المضخات، بينما كان العدو فرحاً بسحب كميّات من المياه أكثر مما يحقّ له (بوصفه محتلاً لفلسطين). أما الآن، فيشير همدر إلى القصف المستمر لكلّ مجرى الوزاني بغية منع أي إمكانية لإعادة الاستفادة من مياهه مجدّداً.

غسيل السيارات في موسم الجفاف
يصرّ عميد كليّة إدارة الأعمال في جامعة المعارف بسام همدر على أنّ «الدولة هي أمّ الصبي، وعليها تعليم الناس وإرشادهم للتحرّك جدياً في المحافظة على الثروة المائية وترشيد استخدام المياه خلال فترات الجفاف.

فعلى سبيل المثال، يشير إلى «عادة شطف الدرج في الأبنية» وما تسببه من هدر بلا جدوى، إذ تصل كمية المياه المهدورة في كلّ «عملية شطف» إلى عدّة خزانات من الماء، علماً أنه «يمكن استخدام مرشّات كهربائية لتنظيف الأقسام المشتركة، تستخدم المياه بنسبة 10% والهواء بنسبة 90%، وتعطي نتيجة أفضل».

وهناك ثقافة مستشرية تتعلق بغسيل السيارات الذي تغيب الدولة عن تنظيم هذا المجال. فبحسب المعطيات شبه الدقيقة فإنه في لبنان يوجد نحو 3000 محطة وقود وغالبيتها فيها مغاسل سيارات، فضلاً عن رواج إنشاء المغاسل الخاصة في السنوات الأخيرة، وكلها تعمل بلا رقابة على استخدام الكميات، أو على نوعية الآلات المستعملة في ضخّ المياه. وبالحدّ الأدنى يستهلك غسيل كل سيارة 80 ليتراً من المياه كمعدّل عام مقارنة مع معدل 90 ليتراً لاستهلاك الفرد الفعلي يومياً في لبنان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى