
عقدت اللجنة التي شكّلها الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، للتحقيق في المجازر التي شهدها الساحل السوري والمنطقة الوسطى في شهر آذار الماضي، مؤتمراً صحافياً لعرض ما توصّلت إليه تحقيقاتها، بعد أربعة شهور ونيّف من العمل. وأثار المؤتمر الذي حضره رئيس اللجنة، القاضي جمعة العنزي، وعضوها المحامي ياسر الفرحان، ضجة واسعة على وقع السردية التي قدّمها، والتي وجّهت أصابع الاتهام بوقوع المجازر (تمّت تسمية هذه الأخيرة جرائم أو أحداث) إلى «الفلول»، بما هم مجموعات منظمة مرتبطة بنظام الأسد – بحسب تعريف اللجنة -، في وقت أظهر فيه العضوان المذكوران محاولات التفافٍ عديدة على أسئلة الصحافيين الذين حضروا المؤتمر.
وبرّرت السردية التي قدّمتها اللجنة للمجازر، التي ذكرت أنّ عدد ضحاياها بلغ 1426 تمّ التحقّق منهم، بشكل مباشر وغير مباشر، الهجوم الذي شنّه نحو 200 ألف مسلح على الساحل السوري، بحسب إحصاءات اللجنة نفسها، والتي رأت أنه «لولا ذاك لقام الفلول بتشكيل دويلة علوية». وذكرت أنّ عدد «الفلول» يتراوح بين 4 آلاف و 20 ألف مسلح، تمّ القبض على ستة أشخاص منهم، فيما تهرّبت من الإجابة على سؤال يتعلّق بدعوات التحريض التي رافقت هجوم الفصائل، التي ذكرت اللجنة أنها متنوعة (بعضها تابعة لوزراتَي الدفاع والداخلية، وأخرى أهلية، وعصابات، وفزعات، وغيرها).
وسرعان ما أثار المؤتمر أصداء سلبية واسعة، اتّفقت في معظمها على نقطة واحدة تتعلّق بعدد الضحايا (1426، بينهم 90 امرأة)، في حين تركّزت على حقيقة ظهور مسلحين شاركوا في مجازر الساحل أثناء الأحداث التي عاشتها السويداء مؤخّراً، الأمر الذي أثار تساؤلات حول سبب عدم القبض عليهم حتى الآن، في وقت ذكرت فيه اللجنة أنّ السلطات قامت بالقبض على 30 متّهماً.
كما أشارت الأخيرة إلى أنها قامت بإعداد قائمة تضمّ أسماء 298 شخصاً هم عبارة عن أفراد ومجموعات يرتبطون ببعض المجاميع والفصائل العسكرية من مجمل القوات المشاركة، يشتبه في ارتكابهم انتهاكات بحق المدنيين، وقائمة أخرى تضمّ أسماء 265 شخصاً منضمّين إلى مجموعات مسلحة خارجة على القانون ومرتبطة بـ«فلول الأسد».
وبدا لافتاً، أثناء المؤتمر الصحافي، محاولة اللجنة، أكثر من مرة، تأكيد براءة القيادات العسكرية من هذه الجرائم، وأنّ الأوامر كانت واضحة بحماية المدنيين، في ما يبدو أنه محاولة للردّ على تحقيق نشرته وكالة «رويترز» للأنباء، أوردت فيه أسماء قياديين في وزارة الدفاع، قالت إنهم متورّطون في المجازر. وذكرت اللجنة أنّ «الفلول» تسبّبوا بمقتل 238 عنصراً من الجيش والأمن، وبخروج 6 مستشفيات عن الخدمة (من دون ذكر أسماء هذه المشافي).
برّرت اللجنة في السردية التي قدّمتها الجرائم التي وقعت، لتنزع عنها صفة «جرائم الحرب» أو «المجازر الطائفية»
كما أشارت إلى أنها أعدّت قائمة تضمّ أسماء 20 مفقوداً بينهم عناصر أمن، مدافعةً بأنّ الـ200 ألف مسلح الذين هاجموا الساحل، جاؤوا لمساعدة الدولة في بسط سيطرتها. وادّعت أنّ الجرائم التي ارتكبت ليست ذات دوافع أيديولوجية، واستدلّت على ذلك بأنّ قرى مجاورة لم تشهد مجازر. كما ذكرت أنّ من بين الدوافع كان «الثأر»؛ إذ قدمت مجموعات من مناطق عانت مجازر الأسد سابقاً.
أيضاً، رفضت اللجنة الكشف عن قائمة الأسماء التي قدّمتها لـ«المشتبه بهم»، وذلك لما قالت إنه يتّسق مع المعايير التي وضعتها. كما ذكرت أنّ مهمّتها انتهت بتقديم التقرير، وأنّ المسؤولية تقع الآن على عاتق السلطات التنفيذية، لافتة إلى أنها ضمّنت تقريرها مطالب بـ«جبر الضرر» بحق من تعرّضوا لاعتداءات وسرقات وغيرها. وقالت إنّ التقرير تم إعداده بعد زيارة 33 موقعاً، ومعاينة المقابر، وتدوين 938 إفادة من شهود، من بينهم عائلات ضحايا، وموظفون محلّيون، وموقوفون لدى الجهات الرسمية، بالإضافة إلى الاطّلاع على المصادر المفتوحة ومراجهة التسجيلات المصورة التي تم نشرها.
كذلك، نفت اللجنة أن تكون قد تلقّت أي معلومات عن عمليات خطف للنساء، في حين ذكر عضوها، ياسر الفرحان، أنهم تلقّوا معلومات عن 5 حالات خطف عن طريق الأمم المتحدة و12 حالة عبر الإعلام، وأنّ نقاشاً عميقاً دار بين الأعضاء، ليتبيّن في ما بعد أنّ بعض الحالات التي علموا بها وقعت في مناطق خارج المنطقة الجعرافية الخاصة بالتحقيق (اللاذقية وحماة وطرطوس)، وبعضها الآخر وقع قبل الأحداث. أيضاً، رفضت اللجنة الكشف عن عدد الأطفال الضحايا، بسبب عدم امتلاكها الأرقام الدقيقة النهائية، كما قالت.
إلى جانب ما تقدّم، تجاهل التقرير حالات التهجير الممنهجة التي تعرّض لها سكان قرى علوية في ريفَي حماه الشرقي والغربي، بالإضافة إلى الدور الذي أدّته فصائل أجنبية، لا يزال مقاتلوها موجودين في ريف اللاذقية. كما برّر، بشكل أو بآخر، الجرائم التي وقعت بحجّة «الفوضى» التي شهدها الساحل، على خلفية «هجمات الفلول»، وعدم امتلاك السلطات القدرة على «ضبط الأوضاع» كون مؤسّساتها ناشئة.
وفي محاولة لتأكيد موثوقية النتائج التي توصّلت إليها، ذكر عضوا اللجنة، خلال المؤتمر الصحافي، أنّ الأخيرة استعانت بسبع محاميات علويات، وأنّ ثلاث نساء من أُسر الضحايا حضرن اللقاءات مع الشهود. وفيما لا تدور حول الجرائم والانتهاكات التي وقعت أي شكوك، بسبب توثيق معظمها قبل تدخّل اللجنة وإجراء التحقيق أصلاً، يبقى الأمر الجديد الذي حمله التقرير هو السردية التي تبرّر بشكل أو بآخر الجرائم، وتنزع عنها صفة «جرائم الحرب»، أو «المجازر الطائفية»، وتحوّلها إلى «ردّ فعل مدان على جرائم ارتكبها الفلول».
وعليه، فإنّ ما قدّمته اللجنة أبعد ما يكون عن التحقيق، وأقرب ما يكون إلى الرواية، التي تتوافق بكل جزئيّاتها مع التصريحات التي أطلقها مسؤولو السلطة قبل تشكيل اللجنة أصلاً، إذ ترك لهم اتّخاذ القرار بالكشف أو عدم الكشف عن أسماء المشتبه بهم.