اخبار محليةالرئيسيةخاص دايلي ليبانون

د. هشام الأعور  – خرافة “ممر داوود”: حين يتحوّل التحليل إلى فتنة

في أيار الماضي، خرج أحد أعضاء مجلس النواب الحاليين عبر شاشة تلفزيونية محلية، رافعًا ورقة طُبعت عليها خريطة أسماها “ممر داوود”، مدعيًا أنها توثق مشروعًا إسرائيليًا يمتد من فلسطين إلى الشمال الشرقي السوري، مرورًا بمحافظة السويداء وجبل العرب. النائب، الذي بدا وكأنه يحاضر في الجغرافيا السياسية والخرائط الاستراتيجية، طرح ما يشبه رواية كاملة عن “الممر”، موجهًا اتهامات مبطنة لأهالي السويداء – وتحديدًا أبناء الطائفة الدرزية – بالتورط أو التواطؤ مع هذا المشروع المزعوم.

بعيدًا عن الخفة في الطرح، كان واضحًا أن هذه الخرجة الإعلامية لم تكن بريئة أو عفوية. بل جاءت في توقيت سياسي وأمني بالغ الحساسية، تزامن مع تزايد الضغوط على الجنوب السوري، وتصاعد التحريض الإعلامي على السويداء، وتحديدًا بعد الحراك التكفيري وما اقترفه من جرائم وتنكيله بالعلويين على الساحل السوري . تصريحات النائب – وما حملته من إيحاءات تخوينية – أسهمت بشكل مباشر في التمهيد لغزوة إرهابية شهدتها المحافظة لاحقًا، قادتها فصائل متطرفة محسوبة على أحمد الشرع المعروف ب “الجولاني” ، وراح ضحيتها مدنيون أبرياء.

التحليل الذي قدّمه النائب يعكس إما جهلًا فاضحًا بجغرافيا الإقليم ومصالح القوى الكبرى، أو رغبة متعمدة في خلق سردية تسمح بتأليب الرأي العام ضد مكوّن وطني أصيل. ففكرة “ممر داوود”، كما رُسمت، تفتقر إلى أي أساس استراتيجي واقعي. إسرائيل – على سبيل المثال – ليست بحاجة أصلًا إلى شق ممر أرضي عبر جبل العرب أو حتى الشمال الشرقي السوري. فالمصالح الجيوسياسية اليوم تتجه نحو ممرات اقتصادية فعلية، أُعلن عنها رسميًا منذ عام 2023، تربط الهند بدول الخليج العربي، ومن ثم إلى إسرائيل وأوروبا. عبر موانئ قائمة، بدعم أمريكي-هندي-خليجي مباشر. هذا المشروع الحيوي يمر خارج الأراضي السورية كليًا، ويحقق لإسرائيل ما هو أهم من السيطرة الجغرافية: التكامل الاقتصادي والسياسي في منطقة تتحول سريعًا نحو خرائط جديدة من التحالفات.

المفارقة أن النائب، وهو يفترض أن يحلل خريطة لم تُنشر من قبل أي جهة رسمية أو بحثية، تجاهل بديهيات الواقع. فحتى لو افترضنا جدلًا وجود هكذا مشروع، فإن تنفيذه لا يتطلب “موافقة الدروز” أو “الأكراد” – كما لم تكن موافقة أحد مطلوبة في مشاريع سابقة مرت عبر أراضٍ محكومة بقوى كبرى. هذا النوع من الخطاب ليس فقط مضللًا، بل يُشكّل تحريضًا مباشرًا ضد مجتمعات محلية تحاول بصعوبة أن تحافظ على حيادها وسلامها الأهلي وسط نزاعات وأجندات إقليمية كبرى.

ما حدث في السويداء ليس معزولًا عن هذا السياق. التصريحات المتلفزة، التي خرجت من تحت قبة البرلمان إلى الشاشات، فتحت الباب أمام لغة التخوين والتشكيك، وأسهمت في خلق مناخ ساهم في تبرير العدوان على المحافظة. لا يجوز اليوم أن يمر مثل هذا الخطاب مرور الكرام، خاصة حين تترتب عليه كوارث إنسانية وأمنية.

الخلاصة أن السياسة، حين تُمارس بلا وعي أو بلا مسؤولية، تصبح خطرًا على السلم الأهلي. والنائب، الذي قدّم نفسه كخبير استراتيجي، لم يفعل سوى أن قدّم خدمة مجانية لأعداء الوطن، حين أطلق رصاصة اتهام في الهواء، لكنها أصابت قلوب الأبرياء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى