اخبار عربية ودوليةالرئيسية

جورج إبراهيم عبد الله: الجناة يواصلون جرائمهم

«أنا هنا، أيها السادة، لأطلب منكم بكل بساطة غسل أيديكم الملطخة بدمائنا ودماء أطفالنا، قبل أن تدعوا الحكم علينا، لأن من يقبل أن ‏يدوس بقدميه دماء 25 ألف شهيد سقطوا خلال الغزو الإمبريالي ‎-‎‏ الصهيوني للبنان عام ‏‎1982‎‏، لا يمكن إلّا أن يكون شريكاً ‏مباشراً لريغان وبيغن في حربهما لإبادة شعبنا‎.‎‏ 25 ألف شهيد في ثلاثة أشهر كرمى لسلامكم. 45 ألف جريح ‏كرمى لعدالتكم‎.‎‏ تسعون يوماً كانت فيها بيروت حقل تجاربٍ للأسلحة الأميركية – الإسرائيلية. ومع ذلك، إدارة ريغان هي الضحية وهي ‏جهة الإدعاء في نظركم‎!‎‏ بطبيعة الحال، ليس من أمرٍ غريبٍ في كل هذا، إلّا على أصحاب الوهم السخيف الذين يدعون إمكانية التمييز ‏بين فرنسا الإمبريالية وعدالتها».
جورج إبراهيم عبد الله – باريس، 23 شباط 1987

في كتاب «المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن»، يُشكل إعدام روبرت داميان في عام 1757 داخل فرنسا نقطة انطلاق لفهم تحوُّل أنظمة العقاب من التعذيب الجسدي العلني إلى المراقبة الانضباطية. فإعدام داميان، الذي شمل تمزيق جسده بالكماشات المُحمّاة وسكب الرصاص المصهور والكبريت على جراحه قبل تقطيعه إرباً وحرقه، لم يكن مجرد عقابٍ جنائي، بل كان طقساً سياسياً لتأكيد سلطة الملك عبر إرهاب الجسد الجماعي. لكن ميشال فوكو أغفل التأثير الاستعماري الفرنسي في تشكيل هذه الأنظمة: فبينما انتقلت فرنسا من تعذيب الأجساد علناً إلى «الإصلاح» في السجون الحديثة، كانت تُوظِّف ذات التقنيات بقسوة أكبر في مستعمراتها، داخل معتقلات الجزائر وغويانا وسجون فيتنام وسوريا ولبنان، وأوضحها في قضية جورج إبراهيم عبدالله، حيث تحوَّلت الأجساد المستعمَرة إلى ميدان للتجارب الانضباطية والعنصرية.
تعقد يوم 19 حزيران 2025 محكمة الاستئناف الفرنسية للنظر في طلب الإفراج المُقدّم من المناضل اللبناني، الرهينة في السجون ‏الفرنسية منذ‎ 41 ‎عاماً‎ ‎دون أي محاكمة عادلة أو حجة قانونية. إذ إن عبد الله محبوس منذ تشرين الأول 1984 رغم صدور قرار قضائي بالإفراج عنه، لتمتدّ معاناته أربعة ‏عقود كاملة. من مُدرِّس لدى وزارة التربية اللبنانية في قرية أكروم شمالي لبنان إلى رمز نضالي عالمي، بدأ مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1978، حينما جُرح في المعارك، وانخرط بعدها مقاتلاً في صفوف «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» والحزب الشيوعي اللبناني. واختار، تحت شعار «وراء العدو في كل مكان»، نقل المعركة إلى عمق الدول الإمبريالية الداعمة للكيان الصهيوني.
وللحديث عن قضية عبد الله، كأقدم أسير سياسي في أوروبا، لا يكفي أن نقف عند تشرين الأول 1984؛ فهذه ليست سوى بداية لمسيرة نضالية تمتدّ حتى هذه اللحظة، عبر صموده الأسطوري في مواجهة العنف الإمبريالي بأبشع أشكاله داخل السجون، وكذلك عبر انتمائه إلى الحركة الأسيرة الفلسطينية، إذ إن عبد الله أضرب عن الطعام مرات عديدة تضامناً مع إضرابات الحركة الأسيرة، في شباط 2012، وآب 2016، ونيسان 2017، وتشرين الأول 2022. كما أرسل رسائل تضامنية عديدة، أبرزها إلى الأمين العام لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» أحمد سعدات، وكذلك إلى القائد الشهيد وليد دقة الذي كان وقع خبر استشهاده ثقيلاً على عبدلله، رغم الانفصال الجغرافي، وغياب أي حركة أسيرة في «سجن لانيميزان» جنوبي غرب فرنسا.
في رسائله، يخاطب عبد الله مختلف الحركات الشعبية والاحتجاجية، ويُشكّل لها سنداً فكرياً ومعنوياً، كما فعل في رسائل المناصرة للشوارع العربية خلال «الربيع العربي»، ولا سيما في رسالته الموجّهة إلى الشارع اللبناني أثناء «ثورة تشرين الأول 2019». إذ إن عبد الله رآها مواجهة لسياسات الإفقار والفساد، وثورة على وصفات النظام المصرفي و«البنك الدولي»، وعلى عنف السياسات الإمبريالية. وخلال معركة «طوفان الأقصى» وجّه عبد الله رسائل متعددة خاطب فيها الشعب المناضل في غزة والضفة الغربية ولبنان، كان آخرها في تشرين الأول 2024. وقد بات الأمر، لتتبّع قضيته كقضية صمود سياسي، يتطلب جدولاً زمنياً، لا من أجل التبسيط، بل في محاولة لفهم هذه السيرة النضالية الطويلة في المواجهة والصمود.
على خطى وديع حداد
يمكن اعتبار وديع حداد، القائد التاريخي لـ«المجال الخارجي» في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، المؤسس الفعلي للإطار النظري والعملي الذي تبناه عبد الله. فقد أسس حداد عام 1968 «المجال الخارجي»، الذي تميز بتنفيذ عمليات نوعية وتأسيس «مطار الثورة» في الأردن، واستقطاب ثوريين من حركات عالمية كالجيش الأحمر الياباني والثوري النيكاراغوي باتريك أورغويللو والفنزويلي كارلوس.
تمحورت إحدى أهم نظريات حداد حول رفض تحويل الثورة الفلسطينية المسلحة إلى جيوش نظامية في المدن، كما حدث في تجربة الثورة في عمّان، حيث آثر تأسيس مراكز تدريب في اليمن والعراق والعمل على المستوى الدولي. ولم تكن الهزيمة التي تعرضت لها هذه النظرية نتيجة الضربات الصهيونية والاغتيالات فحسب، بل أيضاً بسبب إجهاضها فلسطينياً وعدم تطويرها، مقابل التركيز حصراً على نظريات حرب العصابات وتأسيس الجيوش في المدن.
وإذا كان هذا المقال لا يكفي لمناقشة نظريات القتال الثورية تفصيلاً، فإن العنف المفرط الذي تعرضت له قواعد «حرب العصابات» في لبنان وغزة والضفة الغربية، والتي حاصرتها الجغرافيا السياسية خلال معركة «طوفان الأقصى»، أظهر نتائج التخلي عن بناء حركات ثورية عابرة للحدود وقادرة على ضرب القوى الإمبريالية في عقر دارها. فخلال الحرب الحالية، ورغم مشاركة العديد من الدول في حرب عسكرية مباشرة ضد قوى المقاومة (كانت لأميركا وبريطانيا وألمانيا مشاركة عسكرية مباشرة في الحرب على لبنان وغزة واليمن)، بقيت الأعمال المقاومة فردية ومحدودة، كما في عملية الثائر إلياس رودريغيز في أيار الماضي.
وبخصوص استمرار قضية عبد الله كأسير سياسي، يشير غسان شربل في كتاب «أسرار الصندوق الأسود» إلى استحالة كشف علاقة «الألوية الثورية اللبنانية» – التي اتهم عبد الله بترؤسها في «المجال الخارجي» – بالعمليات المنسوبة إليها، مؤكداً أن هذه الألوية، رغم عملها في ظل الحرب الأهلية اللبنانية وبيئة أوروبية معقدة، ظلّت عصية على الاختراق.
ويضيف أنيس النقاش في الكتاب ذاته أن قضيته أدرجت مع قضية عبد الله دون وجود رابط بينهما، مشيراً إلى أنه التقى جورج في «سجن مولان» في فرنسا لمدة سنة، دارت خلالها نقاشات فكرية حول لبنان والمقاومة. ويؤكد النقاش أن عبدالله تعرض للظلم بالحكم المؤبد، إذ لم تثبت إدانته في عمليات الاغتيال المنسوبة إليه، كما أن التفاهم بين «منظمة التحرير الفلسطينية» والجزائر مع فرنسا لوقف عمليات «الألوية الثورية اللبنانية» سبق اعتقال عبد الله، مما يشير إلى أن استمرار اعتقاله ارتبط بالتهويل الإعلامي وكعقاب لنهجه الفكري.

خاتمة:
«علمي بتجمّعكم اليوم، هنا، أمام الأسلاك الشائكة وأبراج المراقبة، على بُعد بضعة أمتار من زنزانتي، يملؤني بالقوة ويدفئ قلبي».
جورج عبد الله، تشرين أول 2024

تمثل قضية الأسير اللبناني جورج إبراهيم عبد الله امتداداً عضوياً لإرث فرنسا الاستعماري في توظيف العقاب كأداة هيمنة. فرفض الإفراج وتحويل سجنه الذي تجاوز 41 عاماً إلى حكم إعدام بطيء، يُجسِّد التحوّل من تعذيب الجسد العلني إلى تقنيات الإفناء الزمني للروح والموت البطيء عبر الإطالة الزمنية كتعذيب معاصر: حيث يتحول السجن إلى عملية تفكيك منهجي للكينونة الإنسانية، عبر حرمان الجسد والوعي من التحرر. وكذلك يمثل رفض تنفيذ قرار الإفراج الصادر عن محكمة النقض الفرنسية عام 2013 – تحت الضغط الأمريكي والإسرائيلي – كيف تعمل الهيمنة الاستعمارية كـ«مراقبة بانوبتيكية» تُعيد إنتاج السيطرة والعنف. ويمثل توظيف الخطاب القانوني – الإعلامي عبر تصنيف «الإرهابي» السجينَ إلى كائن مُجرَّد من الحقوق، مكرراً خطاب الهيمنة الاستعماري.
بهذا يصير عبد الله جسداً رمزياً لاستمرارية آلة العنف الفرنسية التي أعادت تشكيل ذاتها: من ساحات التعذيب في الجزائر إلى زنازين «لانميزان»، حيث يُنفَّذ «الإعدام البطيء» تحت غطاء القانون/ الهيمنة. وهذه الآلية الانضباطية لا تقل وحشية عن كماشات داميان؛ بل إنها تقتل عبر تمزيق الزمن نفسه. فالسجن هنا ليس عقوبة، بل إنتاجٌ متواصل لـ«الموت» في قلب الحداثة الأوروبية. حكم «الإعدام البطيء» حوله عبد الله عبر صموده وإخلاصه المتواصل للثورة إلى استمرارية نضالية تقرب الإمبريالية نحو فنائها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى