إنذار بتغيّر قواعد اللعبة: «شبكة العنكبوت» يختبر الردع النووي
سعيد محمد - الاخبار

في واحدةٍ من أكثر العمليات تعقيداً وجرأةً، منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، قبل أكثر من ثلاث سنوات، نفّذت أجهزة استخبارية، قيل إنها الاستخبارات الأوكرانية (SBU)، هجوماً واسع النطاق، باستخدام طائرات مسيّرة، على قواعد جوية روسية، طالت مواقع من سيبيريا شرقاً إلى مورمانسك في الشمال الغربي، وأصابت، وفقاً لمصادر أوكرانية، أكثر من 40 قاذفة إستراتيجية روسية.
والعملية التي أطلقت كييف عليها اسم «شبكة العنكبوت»، ووصفتها بأنها نتاج 18 شهراً من التخطيط والتنفيذ، أثارت مخاوف من أنها تجاوزت حدود الهجوم التكتيكي، واقتربت من تهديد جوهر العقيدة النووية الروسية، بعدما استهدفت بعض القواعد التي تُعدّ مراكز بالغة الحساسية في منظومة الردع النووي الروسية. ورغم أن الهجوم نُسب رسمياً إلى جهاز الاستخبارات الأوكراني، إلا أن شواهد عدة تشير إلى أن دعماً لوجستياً واستخباريّاً غربيّاً قد لعب دوراً حاسماً فيه، ولا سيما أن بريطانيا والولايات المتحدة درّبتا سابقاً القوات الخاصة الأوكرانية على عمليات غير تقليدية، وكان لهما دور سابق في حوادث تخريب استخبارية استهدفت جسر القرم وقاعدة «إنغيلس» الجوية.
ووفقاً لمعلومات سرّبتها الاستخبارات الأوكرانية إلى وسائل الإعلام، فقد تمّ تهريب الطائرات المسيّرة إلى الداخل الروسي، باستخدام شاحنات نقل مزودة بأكواخ خشبية متنقلة، وُضعت فيها الطائرات تحت أسقف تُفتح من بُعد. وفي اللحظة المحدّدة، أُطلقت المسيّرات من على بعد أميال قليلة من القواعد الجوية الروسية، مستهدفةً قاذفات إستراتيجية قادرة على حمل رؤوس نووية من طراز «Tu-95»، و«Tu-22»، و«Tu-160»، وأيضاً طائرة الإنذار المبكر «A-50».
ومع أن تقديرات الجانب الأوكراني، والتي تحدّثت عن أضرار تُجاوز قيمتها السبعة مليارات دولار أميركي، لم تُؤكَّد بشكل مستقلّ، غير أن المشاهد المصوّرة للانفجارات والدخان المتصاعد من قواعد مثل «بيلایا» في إيركوتسك و«أولينيا» في مورمانسك، تؤكّد أن الضربة كانت موجعة.
وفيما وصف بعض المعلّقين الروس، الهجوم بأنه أشبه بـ«بيرل هاربر روسيا»، في إشارة إلى الهجوم الياباني المفاجئ على الأسطول الأميركي في عام 1941 في الحرب العالمية الثانية، أكد خبراء عسكريون أوكرانيون أنه حتى لو لم تُدمّر جميع الطائرات، فإن الأثر المعنوي واللوجستي لهذه العملية كبير؛ إذ إن هذه الطائرات لم تعد تُنتَج، وإصلاحها يحتاج إلى موارد وخبرات لن تكون متوافرة بسهولة في روسيا.
وقارن هؤلاء ما جرى بنجاحات عسكرية بارزة أخرى منذ بدء الحرب، بما في ذلك إغراق السفينة الرائدة في أسطول البحر الأسود الروسي، «موسكفا»، وقصف جسر كيرتش، وكلاهما في عام 2022، إضافة إلى هجوم صاروخي على ميناء «سيفاستوبول» في العام التالي. وكتب أحدهم ساخراً: «خسارة طائرتين من طراز Tu-160، تشبه خسارة جوادين من قطيع حمير»، بينما غرّدت صحيفة «بيزنس أوكرانيا»: «اتّضح أن لدى أوكرانيا أوراقاً بالفعل، وزيلينسكي لعب ورقة الملك: طائرات الدرون». وتباهى الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بدوره، بالعملية، قائلاً فور ورود الأنباء عنها: «هذه بطولات أوكرانية ستُكتب في كتب التاريخ. نحن ندافع عن أنفسنا، وسنفعل كل ما يلزم ليشعر الروس بضرورة إنهاء هذه الحرب».
ردّت روسيا على سلسلة الاستفزازات الأوكرانية – الغربية، بمزيج من الحذر والضربات المحدودة
وبالفعل، فإن العملية قُرئت كرسالة واضحة إلى روسيا، مفادها أن أوكرانيا لا تزال قادرة على الضرب في العمق الروسي، رغم التقدّم المستمرّ، لكن البطيء، للقوات الروسية، على الجبهة. على أن الرسالة الأهمّ ربّما كانت موجّهة إلى الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، تماماً كما قال أحد المسؤولين الأوكرانيين الذي تحدّث، أمس، إلى «هيئة الإذاعة البريطانية»، قائلاً إن «أكبر مشكلة نواجهها، هي أن واشنطن تصرّفت أخيراً وكأنّ أوكرانيا خسرت الحرب بالفعل، وهذا ما يبني عليه الجميع مواقفهم».
وعن ذلك، كتب الصحافي الأوكراني، إيليا بونومارينكو: «هذه النتيجة هي ما يحدث عندما ترفض أمّة تحت الهجوم الاستسلام لرؤية المتشائمين الذين يكرّرون: لا تمتلكون أوراقاً، روسيا لا تُهزم، استسلموا من أجل السلام». ومن المعلوم أن هذه ليست المرّة الأولى التي تهاجم فيها أوكرانيا العمق الروسي، لكن ما أقدمت عليه الأحد يعدّ الهجوم الأوسع والأكثر تنسيقاً، والذي شكّل دليلاً إضافياً على خطورة تكنولوجيا الدرونات، التي بات في مقدورها أن تهدّد طائرات ضخمة تبلغ قيمتها مئات الملايين.
وإلى الآن، ردّت روسيا على سلسلة الاستفزازات الأوكرانية – الغربية، بمزيج من الحذر والضربات المحدودة، ما فسره الغرب على أنه ضعف، وأغرى أوكرانيا بتصعيد جرأتها. لكن هجوم «شبكة العنكبوت» قد يكون نقطة تحوّل نوعي؛ إذ إن الكرملين يرى أن ضرب قاذفات إستراتيجية على أراضيه، بالتزامن مع محاولات اغتيال مزعومة للرئيس فلاديمير بوتين نفسه (كما في محاولة استهدافه بطائرة مسيّرة أثناء زيارة إلى كورسك)، يُقوّض توازن الردع، ويضع الدولة أمام خطر وجودي.
وبحسب العقيدة النووية الروسية المحدّثة عام 2024، فإن روسيا تحتفظ بحق استخدام الأسلحة النووية في حال تعرض «مواقع حكومية أو عسكرية حيوية» لهجوم يؤدي إلى تعطيل قدرة الردع النووي، في حين أن ما قامت به أوكرانيا، عبر «شبكة العنكبوت»، يُمكن أن يُفسَّر في موسكو على أنه ينطبق على هذا البند. وكانت أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن الهجمات نُفّذت من مناطق قريبة من القواعد، وأن بعض الطائرات أُصيبت بنيران، كما أعلنت عن اعتقال عدد من الأشخاص الذين شاركوا في «الهجوم الإرهابي».
وفيما طالب البعض في موسكو بردّ حازم، كتب المدوّن العسكري، رومان أليخين: «نأمل أن يكون الردّ مثلما ردّت أميركا على بيرل هاربر، أو أقسى». كذلك، ظهرت تكهّنات في وسائل الإعلام الروسية باحتمال التهديد باستخدام السلاح النووي مجدداً، بينما اعتبر معارضون روس في الخارج أن العملية تشكّل خرقاً أمنيّاً مهيناً لبوتين شخصياً، وأن الأخير سيكون تحت الضغط للقيام بردّ غاضب.
وأتت هذه العملية قبل ساعات من انطلاق جولة جديدة من المحادثات بين روسيا وأوكرانيا في قصر «تشيران» الفخم في إسطنبول التركية. ورغم ضخامة هجوم «شبكة العنكبوت»، إلا أنه لا يُتوقع أن يؤثّر كثيراً في المسار التفاوضي الذي يبدو أنه ما يزال بعيداً من تحقيق أيّ اختراق. وأعلن زيلينسكي أن كييف سترسل وفداً إلى المحادثات، ولكنه اشتكى من أن موسكو لم تُرسل مقترحاتها المسبقة حول وثيقة إطار المفاوضات كما كان مطلوباً.
ومن جهته، قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إن بلاده في صدد تقديم مذكّرة حول «جميع جوانب التغلّب بشكل موثوق على الأسباب الجذرية للأزمة»، إلى المسؤولين الأوكرانيين، اليوم. وكان لافروف تحدّث هاتفياً، أول من أمس، إلى نظيره الأميركي، ماركو روبيو، عشية استئناف المفاوضات، «وتبادلا وجهات النظر حول مبادرات مختلفة تتعلّق بتسوية سياسية للأزمة الأوكرانية».
وفي هذا السياق، يواجه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لحظة حاسمة، بعدما أعلن التزامه بدفع عملية السلام؛ إذ يجد نفسه أمام معضلة: فهل يندّد بالهجوم الأوكراني بينما يدفع حلفاؤه في الكونغرس في اتجاه التصعيد، أم يصمت ويواصل دعم الحرب، مخاطِراً بانزلاق العالم إلى صراع نووي، ولا سيما أن مستشاره الخاص لشؤون أوكرانيا، كيث كيلوغ، أقرّ بأن واشنطن وحلف «الناتو» مشاركان فعلياً في الحرب، وكذلك فعل وزير خارجيته، روبيو، الذي أكد أن أميركا تخوض «حرباً بالوكالة» ضدّ روسيا؟ على أيّ حال، سواء كان الردّ الروسي وشيكاً أو مؤجلاً، فإن هجوم «شبكة العنكبوت» ينذر بتغيير قواعد اللعبة، ويهدّد بتحوّل الحرب من صراع إقليمي إلى اختبار وجودي لميزان الردع النووي العالمي.
محادثات إسطنبول: اختراق في الملف الإنساني
شهدت مدينة إسطنبول التركية جولة محادثات هي الثانية المباشرة بين وفدَي روسيا وأوكرانيا المفاوضَين، برعاية تركية، وذلك في إطار المحاولات الجارية لتسوية النزاع المستمرّ في عامه الرابع. ورغم أنّ الاجتماع لم يسفر عن أيّ اختراق دبلوماسي حاسم، فإنه أحرز تقدّماً في بعض الملفّات الإنسانية، لاسيّما لجهة التوصّل إلى اتّفاق مبدئي حول تبادل جديد للأسرى، وعودة جثامين الجنود القتلى.
وأعلن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، أثناء مشاركته في قمّة لـ«الناتو»، في العاصمة الليتوانية فيلنيوس، أنّ بلاده تتوقّع تنفيذ عملية تبادل جديدة للأسرى مع روسيا، تشمل بشكل خاص الجنود المصابين إصابات بليغة، وكذلك المقاتلين من الفئة العمرية بين 18 و25 عاماً. كما أشار إلى أنّ موسكو وافقت على إعادة جثامين ستة آلاف جندي أوكراني، في خطوة رمزية تنمّ عن انفتاح محدود على العمل الإنساني، رغم استمرار القتال.
وقد سلّم الوفد الروسي، الذي قاده فلاديمير ميدينسكي، مذكّرة إطار تتضمّن رؤية موسكو الأولية لإنهاء الحرب، فيما أكّد الوفد الأوكراني، برئاسة وزير الدفاع رستم أوميروف، أنه يحتاج أسبوعاً لدراستها قبل الردّ. وتطرّق الجانبان، أثناء المحادثات، إلى احتمال عقد لقاء مباشر بين الرئيسَين زيلينسكي، وبوتين، في نهاية حزيران الجاري، وربّما بمشاركة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بدعوة من الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، الذي أعرب، من جهته، عن رغبته في تحويل إسطنبول إلى «مركز للسلام».
على أنّ الخلافات الجوهرية ما تزال عميقة؛ إذ أعلن المفاوض الأوكراني، سيرغي كيسليتسيا، أن موسكو رفضت مجدّداً مقترح وقف إطلاق نار غير مشروط، تَعتبره كييف مطلباً أساسياً لا يمكن تجاوزه. وتُصر روسيا، كما في مرات سابقة، على رفض وقف القتال بشكل كامل، بحجّة أن أيّ هدنة طويلة ستمنح القوات الأوكرانية وقتاً لإعادة التسلّح وإعادة التموضع، في وقت تحقّق فيه قوّاتها تقدُّماً ميدانياً في بعض الجبهات. وقال ميدينسكي إنّه يمكن لبلاده الموافقة على هدنة ليومين أو ثلاثة أيام في بعض الجبهات، كي يمكّن القادة من تجميع جثث جنودهم القتلى.
إزاء هذا الجمود، اقترحت أوكرانيا عقد جولة جديدة من المحادثات قبل نهاية الشهر الجاري، مؤكّدة أن القضايا المصيرية لا يمكن حسْمها إلّا بلقاء مباشر يجمع القادة. وقال أوميروف: «نحن ندعو إلى إنهاء حقيقي للحرب: وقف شامل لإطلاق النار، إجراءات إنسانية ملموسة، ولقاء على مستوى القمّة. إذا كانت روسيا جادّة، فستوافق. وإذا لم تكن كذلك، فيجب أن تلي ذلك عقوبات صارمة».
وتترافق هذه الجهود الدبلوماسية مع دعم متزايد من قادة «حلف شمال الأطلسي» لأوكرانيا، الذين اعتبروا أنّ روسيا لا تُظهر، إلى الآن، أيّ التزام حقيقي بالسلام، بينما حذّرهم زيلينسكي، في خطابه أمام القمّة، من أنّ «بوتين سيواصل اللّعب بالجميع إذا لم يُمارَس عليه ضغط حقيقي»، داعياً إلى فرض «مستوى جديد من العقوبات» على موسكو، يشمل القيود على صادرات النفط واستخدام ناقلات الشحن.
وفي المحصّلة، ورغم المؤشّرات الإيجابية المحدودة، ما تزال التسوية بعيدة المنال. غير أنّ مجرّد استمرار اللقاءات، وعودة الملفات الإنسانية إلى الواجهة، يعكسان سعي الطرفين إلى تجنّب القطيعة الكاملة، لاسيما في ظلّ ضغط أميركي متزايد عليهما.