اخبار محليةالرئيسية

مئة يوم على شهادة محمد عفيف… الرجل الذي قذف بنفسه إلى الحافة الأمامية للشجاعة

الشيخ د. صادق النابلسي

مئة يوم على شهادة محمد عفيف… الرجل الذي قذف بنفسه إلى الحافة الأمامية للشجاعة

لا تحسبوا ما أقوله شيئاً. مثلي لا يُحسن أن يقول في مثله شيئاً.
مثلي لا يُحسن أن يقول في مثله شيئاً، لولا أنّ الكلمات كالرجال وُجدت لتقاتل، ولولا أنّ الكلمات ممشى طويل من تراب الحنين.
مَن طلب مني أن أكتب وضعني على حبل المِشنقة. مَن قال إنّ الكلماتِ تقتل العدو وحده. الكلماتُ أيضاً حين تُحدّ حروفها بمِسَنّ القلب تذبح من الوريد إلى الوريد.
تدرك لحظتها، ليس كم أنّ مهنة الكلام شاقةٌ، وأنّ عليك أن تجتاز مع كل جملة تكتبها أزمة حادة فقط، بل خطورة أنّك عارٍ تماماً من الكلام المفيد، بل وكأنّك وليد لا يحسن من الحياة إلا البكاء.

أكرر… لا تحسبوا ما أقوله شيئاً. فأنا مسبقاً أريد أن أدفع عن نفسي تهمة هذا الاختناق القاتل في العبارة، وهذا الخطأ الفادح بالوقوف قسراً أمامكم.
سرُّ الحاج محمد عفيف النابلسي، عُرف حين قام مقام «الأمين» في ليال ظلماء قاسية، رحل في واحدة منها أسمى رجالها وباني قداستها ومنير بصيرتها وهادي مسيرتها وصانع انتصاراتها وأمجادها، السيد أبو هادي.

كان وقتها، وهو المريض بداء التهرّب من العلنية إلى ما قبل مؤتمراته الصحافية التي تُشبه الجبال في صلابتها وعنفوانها وإبائها وكبريائها وتمرّدها، والسماء في سموها وامتدادها ووضوحها وحقيقتها وفيضها… كان الإعجاز في مواجهة التكنولوجيا، والشموخ في مواجهة العار، والقوة في مواجهة الانكسار، والأمل في مواجهة اليأس، والصدق في مواجهة الأكاذيب، والإيمان في مواجهة الكفر.

سرُّ محمد عفيف افُتضح حين علمنا أنّ جوهر كونه محمد عفيف هو أن تبقى «روحه التي بين جنبيه»، ولكن بعد أن تتفكك ألف باء الروح فلا طيّب الله العيش بعدها على هذه الأرض.
هكذا تنطوي العظمة في جانبها الأكثر بهاء على حبٍّ غير محدود لسيد «فاض بالحب»، ولمقاومة يندر أن نجد لها مثيلاً، ولأناس لم يرَ لهم وجوهاً ولكنهم كانوا في قلبه عنوان بركة الأرض وخميرتِها.
من دون هذا الحب، ما كنّا لنعرف يا «حاج» سرّك وأنت ذاهب إلى معركتك الأخيرة، بل إلى شهادة الحب التي تظل الكلمات، مهما تذاكت في ادّعائها، تتطلب برهانها في الأعمال الخطيرة وفي المواقف العصيبة، وهذا ما شهده العالم لك في نهارات الضاحية الرائعة.

في معموديتك الخاطفة كلمح البصر، كان علينا أن نكتشف ديالكتيك الحب هذا، وترابط الأرواح واتساقها العجيب من النجف الأشرف إلى أوليات النضال بين البقاع والجنوب، إلى الضاحية التي وثّقت الرباط المقدس وزادت من خيوطه وحبكاته حول مبدأ المقاومة وأسطورة الشهادة.
سرُّ محمد عفيف في الوفاء. لا يقبل منه إلا حدَّه المثاليَ الأعلى. أحياناً يأخذ شكل نضال لا يعرف الكلل، وآخر شكل شعر مصنوع من كاشي الفرح، وفي الشكلين هو على استعداد أن يتلقى بصدره الأرزاء والأحقاد وأن يصعد الجلجلة ويتحمل الصلْب وكل عذابات الجلادين، بل أن يطأ الموت بالموت لأجل الذين يحبهم.
سرُّ محمد عفيف معايشته أصنافاً من الناس وسعهم كلهم بتلاوينهم واتجاهاتهم وتناقضاتهم، ورأى كلٌ فيه جِماع النبل الإنساني، وحين خرج إلى الضوء رأوا فيه الرجولة والرجال وشيئاً من وقوف الحسين وحيداً في كربلاء، دليلاً إلى الكبرياء، «الحديد بالحديد والدم بالدم والنار بالنار»، وشيئاً من صوت زينب في مجلس يزيد «لم يخفنا القصف فكيف تخيفنا التهديدات، إنّ إرادتنا راسخة وعزيمتنا قوية ومقاومتنا ثابتة».

سرُّ محمد عفيف أنّه قاتل الصهاينة بالبندقية قبل الكلمة والصورة، وقاتلهم بعد ذلك بالكلمة والصورة والتضحية. وأي تضحية حين قذف بنفسه إلى الخط الأخير والحافة الأمامية للشجاعة؟ يغضب وأي غضب حين يكون لله وعن المظلومين؟ إنّ غضب الناس الشرفاء هو الأكثر جمالاً وإبهاراً وشرعية. أنت بغضبك يا «حاج» كنت أحدَ الناس الأكثر شرفاً في هذا العالم عندما صرخت في وجه أكثر الناس خِسّة ودناءة ووحشية.

كان يعرف إلى أين يخرج ومتى يخرج ليصنع الحدث والحقيقة والإبداع والإلهام ويردّ على من استعجل إخماد النور المقدس، إنّ «حزب الله أمة والأمم لا تموت».
هذا الاعتداد الماردي، هذا الاعتداد الثوري، جعله خلال خمسين يوماً من الأحزان الثقال ينتقل من موت إلى موت، ويقول لمن سأله الحرص على نفسه: مثلي لا يحيا إلا بالسيد بدأنا معاً ونختم أعمارنا معاً، على رجاء القيامة وغد بهي تكون فيه الحياة أكثر أمناً وعدلاً.
سرُّ محمد عفيف «المهندس» أنّه رسم خريطة نضاله بمعايير كربلائية مطلقة، وبمقاييس إنسانية عفيفة وليّنة ومرنة فوق زيف الممارسات اليومية، بمعانقة الوجود شغفاً ومغامرة واقتحاماً، باكتشاف المواهب الكامنة في النفس المتسامية الحالمة.
كثير ممن ثاروا استكانوا، قاتلوا ثم استراحوا، ولكن القليل منهم أكملوا الطريق حتى نقطة الذروة.
وهذا هو السر في الطاقة التي لا تنفد في جهادهم وخيالهم وثباتهم وهم يسافرون إلى الله.

هل تذكرون ما كتبه وجرى على لسان حبيبه الأسمى «حدثهم يا صلاح عن القلوب الوالهة التي تتأوه ليل نهار شوقاً إلى اللقاء وحنيناً إلى عالمهم».
كان يتمنى أن يُروى من تلك الكأس التي عاش طويلاً طويلاً ليشرب منها ويهنأ، وهذا ما أيقنه باكراً من أنّ جنّة العشق طريقها يمر بالدم. فكتب جملته الأرجوانية الوداعية: «ولعلّي لاحق به عما قريب شهيداً في إثره فتستقر روحي».

عمل كل ما يمكن أن يعمل، في التعليم والبندقية ولصق المنشورات وجمع التبرعات والخطابة والكتابة والأمن والإعلام والسياسة… وكان الأعظم بين أعماله كلها، هذا الصوت الحسيني الهادر في وجه شياطين العصر، وهذا الثبات على أرض لم يرفع قدميه عنها بل غرزهما فيها ليُخلّد ثائراً قدوة في الثوار.
وماذا بعد رحيلك الذباح يا أخي وحبيبي وروحي التي بين جنبيّ؟

ربما كثيرون مثلي وهم في كامل إيمانهم وتسليمهم سألوا: لماذا يرحل أجمل رجالنا يا الله؟
هل أستعيد لك مظفر النواب الذي كنتَ تحفظ أشعاره عن ظهر قلب، لنشعل لأنفسنا بخوراً للجراح ونرفع راية للحزن.
مو حزن.. لكن حزين… (لهجة عراقية)
مثل ما تنقطع جوا المطر شدة ياسمين…

أنا كتلك مو حزن… لكن حزين… مثل صندوق العرس ينباع خردة عشق مِن تمضي السنين!
أنا كتلك مو حزن… لكن حزين… مثل بلبل قِعَد متأخر لِقى البستان كلها بلايه تين!
مو حزن… لا… مو حزن… لا… مو حزن، لكن أحبك من كنت يا أسمر جنين!
اعذرني يا أخي لن أكمل موتي هنا بعدد آخر من الكلمات. بعدك اشتهينا كلُنا لو متنا معك شهداء، فلا طيّب الله العيش بعدك وبعد سيّدك الأحب والأسمى والأقدس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى