لم يرد في النسخة الأخيرة المسرّبة من خطّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، ما يشير مباشرة أو مواربة إلى وجود توزيع للمسؤوليات رغم تعدّد خيارات توزيع الخسائر المبني على «التسوية» بين الأطراف المعنيين، والتي يكون فيها للمصارف «تمييز» إيجابي عن سائر الأطراف، بأنها معفاة بالكامل من المسؤولية القانونية وبشكل كبير من المسؤولية المالية، عما ارتبكته بحقّ المودعين. بل بدا أن هذه الخطة، تتبنّى سردية المصارف عن وجود «أزمة نظامية» أتت فجأة من العدم ودفعت كل المصارف إلى الإفلاس من دون أي سابق إنذار كأنه كارثة طبيعية خارجة عن سيطرتها وعن معرفتها. تسوية كهذه، إذا مرّت، سواء بهذه الخطة أو غيرها، هي كارثة بحدّ ذاتها، وتعبّر عن استمرار تموضع المصارف في قلب مركز النفوذ. المصارف هي المؤسّسات الأكثر تعبيراً عن امتداد مراكز النفوذ بين مؤسّسات الحكم وبين قوى السوق، إذ دائماً ما كانت القوى السياسية ممثّلة في مجالس إدارات المصارف، بينما كان المصرفيون ممثّلين دائماً في الحكومات، ودائماً ما كان مصرف لبنان مهيمناً على السياسات الاقتصادية انطلاقاً من أولويات السياسة النقدية بالتعاون والتكامل مع قوى الحكومة والمصارف.
ما يدفع إلى اعتبار النسخة الأخيرة من خطّة إعادة هيكلة القطاع المالي، أنها «تسوية» أو «صفقة» ترمي إلى توزيع للخسائر على حساب توزيع المسؤوليات، هي الحسابات النهائية لها. فهي تشمل تسوية 86 مليار دولار من الودائع غالبيتها تقع على عاتق المودعين، بينما لن تتحمّل المصارف سوى قسم بسيط منها بالتقسيط، ومصرف لبنان سيتحمّل أعباء نقدية مباشرة لتسديد الودائع إلى جانب أعباء سياساتية في إصدار كميات هائلة من النقد وضخّها في السوق وإدارتها. وستفقد الحكومة عشرات المؤسسات والإدارات العامة التي يخمّن بعضها بقيم مالية هائلة بمليارات الدولارات، فيما بعضها الآخر ينطوي على إمكانات مالية مذهلة ما زالت كامنة.
وبحسب الأرقام المعروضة في خطّة الحكومة الأخيرة، فإن المودع سيتحمّل شطباً مباشراً في الودائع بقيمة 27 مليار دولار (عبر مجموعة إجراءات: إثبات مصدر الثروة، إعادة الفوائد الإضافية، الخسارة الناتجة من تحويل الودائع إلى أسهم وسندات، علماً بأن بعض المودعين المقترضين من المصارف سيتحمّلون أيضاً تسديد فروقات سعر الصرف للقروض المسددة التي تفوق 500 ألف دولار بمعدل 17%)، وسيحصل في المقابل على سلّة متنوّعة من النقد والأسهم والسندات قيمتها الاسمية هي على النحو الآتي: 18.71 مليار دولار مقسطة على 11 سنة بمعدل 2.17 مليار سنوياً. أيضاً سيحصل على 833 تريليون ليرة مقسطة على 11 سنة بمعدل 75.7 تريليون ليرة سنوياً. مجموع ما سيحصل عليه نقداً يبلغ 39.76 مليار دولار منها 52% بالليرة اللبنانية وفقاً لأسعار صرف متعدّدة. وسيحصل على أسهم وسندات مصرفية بقيمة 9.42 مليارات دولار سيتم تسعيرها في ميزانيات المصارف بقيمتها الفعلية البالغة 1520 مليون دولار، أي سيشطب منها 7.9 مليارات دولار. وسيحصل على سندات صفرية القسيمة (زيرو كوبون) بقيمة 11.86 مليار دولار على أن يتم شطب نصفها مباشرة، أي 5.93 مليارات دولار وأن تستحق بعد 20 سنة، أي إن قيمتها الفعلية الكاملة لا يمكن أن تُسترد إلا بعد 20 سنة. اللافت أنه لا يوجد أيُّ ضمانات لأسعار أسهم المصارف ولا لأسعار السندات بكل أنواعها، أي إن نسب الاسترداد غير مضمونة.
إذاً، ما الذي ستتكبدّه المصارف؟ الإجابة أيضاً تأتي من أرقام الخطة التي تشير إلى أن المصارف ستدفع أقلّ من نصف الودائع المضمونة (50% من الودائع المؤهلة و37.5% من الودائع غير المؤهلة)، أي ما مجموعه 8.49 مليارات دولار مقسّطة على 11 سنة، وستضطر من أجل الاستمرار أن تزيد رساميلها بقيمة 2.8 مليار دولار، وسيترتب عليها في ميزانياتها سندات دين بقيمة 600 مليون دولار. هذا كل ما يترتب على المصارف بموجب هذه الخطة. ولن يكون عليها أي التزامات كبيرة سوى ما يتوجب أن تدفعه للمودعين بقيمة 2.17 مليار دولار سنوياً على مدى 11 سنة. وفي المقابل ستتخلص من كل الأعباء المالية والقانونية.
أما مصرف لبنان، فستترتب عليه أعباء غير قليلة. فهو سيدفع نصف الودائع المضمونة المؤهلة بقيمة 5.9 مليارات دولار، وسيدفع أيضاً نصف الودائع المضمونة غير المؤهلة بقيمة 2.59 مليار دولار وعليه أن يغطّي بالتنسيق مع الحكومة إصدارات الليرة اللبنانية المخصصة لسحوبات المودعين السنوية بقيمة 75.7 تريليون ليرة، وبالتالي يتوجب عليه أن يدير كتلة نقدية هائلة سريعة التراكم إلى جانب إدارة أعباء التضخّم واحتمالات تدهور سعر صرف الليرة مقابل الدولار وتأمين الدولارات اللازمة لإنفاق الحكومة. كما عليه أن يقرض الحكومة مبلغ 2.9 مليار دولار من أجل إصدار السندات الصفرية القيمة (زيرو كوبون)، وعليه أيضاً أن يغطّي أي أعباء إضافية لمعالجة ما يتبقى من الودائع بعد كل هذه التسوية عبر إصدار سندات دائمة.
سيترتّب على الحكومة أن تتخلّى عن ملكية عشرات المؤسسات من أجل تمويل صندوق استرداد الودائع.
ستشطب من الودائع بشكل مباشر 27 مليار وسيُقسّط مبلغ 18.7 مليار دولار على 11 سنة والباقي سندات وأسهم أسعارها ومردودها غير مضمونين
من أبرز المؤسسات وأكثرها قيمة، هي شركتا الخلوي (ألفا وتاتش) وأوجيرو مع الهاتف الثابت، ومؤسسة البريد، بالإضافة إلى شركة طيران الشرق الأوسط (حالياً مملوكة بنسبة 99% من مصرف لبنان)، وشركة انترا التي تملك نصف أسهم الكازينو والتي يملك فيها مصرف لبنان حصّة وازنة أيضاً ولديها أملاك عقارية بقيمة مخمّنة بنحو 1.2 مليار دولار، وإدارة حصر التبغ والتنباك، بالإضافة إلى كهرباء لبنان والامتيازات التي استردتها، والمؤسسات العامة للمياه والمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، والمرافئ البحرية والبرية، والمطارات، والمؤسسة العامة للنقل وسكك الحديد، ومؤسّسات أليسار، ومشروع ألينور، وتلفزيون وإذاعة لبنان، والمدن الرياضية ونادي الغولف، ومنشآت النفط في طرابلس والزهراني، ومعرض رشيد كرامي الدولي ومؤسسة ضمان الودائع ومصرف الإسكان (تملك الدولة نصفه). كل هذه المؤسسات لديها احتكار بالعمل على الأراضي اللبنانية، وبعضها يربح بشكل كبير مثل شركتي الخلوي وشركة طيران الشرق الأوسط، وبعضها الآخر ينطوي على أصول ضخمة تقدّر بعشرات المليارات من الدولارات مثل أوجيرو القيّمة على شبكة الهاتف الثابت وعلى استجرار الإنترنت وتوزيعه… ببساطة، الدولة ستتخلّى عن قسم من أملاكها العامة في أكبر جولة خصخصة سيعرفها لبنان، من أجل تحمّل الأعباء عن المصارف وأصحابها المسؤولين بصفة شخصية بأموالهم الخاصة عما ارتُكب في القطاع. المصارف لن تسهم بقرش واحد في هذه العملية!
الدولة ستتخلّى عن عشرات المؤسسات والشركات المنتجة التي تملك احتكاراً في السوق في أكبر جولة خصخصة سيعرفها لبنان
الطامة الكبرى ستكون في ما سيتحمّله الاقتصاد والمجتمع من أعباء هائلة لإطفاء خسائر المصارف. فالأعباء لن تكون منظورة ومباشرة، بل ستكون على شكل تضخّم وركود تضخّمي وفقدان إمكانات النموّ على مدى قد يفوق 11 سنة. فبتغطية من الحكومة سيعمد مصرف لبنان، كما تنصّ الخطة، إلى تنفيذ عملية هائلة لإصدار النقد، بقيمة 75.7 تريليون ليرة سنوياً، أي ما يفوق الكتلة النقدية المتداولة حالياً والبالغة 59.6 تريليوناً في نهاية تموز 2024. تداعيات الخطّة على الاقتصاد هي الأهمّ لأنها تعني المستقبل وستحدّد قدرة المجتمع على الاستمرار والأكلاف التي سيدفعها في مختلف القطاعات ومنها الأمن الغذائي والكلفة الصحية (طبابة ودواء واستشفاء)، وكلفة التعليم، وكلفة النقل، وأسعار الإيجارات… أيُّ استثمارات ستأتي إلى لبنان وما قيمتها ومفاعيلها المتاحة في ظل هذه الخطّة؟ وما هي المجالات المتاحة؟ هل سيعود لبنان إلى النموذج السابق القائم على القطاع المالي والقطاع العقاري، إلى جانب الاعتماد المفرط على التحويلات والسياحة؟ ما هي احتمالات تراكم الخسائر مجدداً في بنية هذا النموذج؟ ثمة كثير من الأسئلة التي لا إجابات عنها في الخطة، والتي تتعامل معها الحكومة وأركان السلطة بتغافل واسع.
منهجية التوزيع: تحديد المسؤوليات ثم الاقتصاد
هناك آراء متناقضة للتعامل مع هذه الخطة، فهناك خبراء وذوو سلطة ونفوذ يرون أنها «تسوية» يمكن أن تحتمل المزيد من التحسينات على مستوى شطب الخسائر وعلى مستوى مشاركة المصارف فيها، إلا أنها بشكل عام تمثّل أرضية جيدة للانطلاق نحو «التسوية النهائية»، إذ يرى هؤلاء أنه لا يمكن إغلاق هذا الملف إلا بتسوية. لكن في المقابل، ثمة رأي وازن من مسؤولين حاليين أو سابقين في السلطة التنفيذية والتشريعية وفي جمعيات أو نقابات وغيرهم، يرى أن هذه الخطّة هي عكس ما يفترض أن تكون عليه منهجياً، إذ إنها تسير بالمقلوب. فأولاً يجب تحديد المسؤوليات وفقاً لما تنصّ عليه قوانين النقد والتسليف والتجارة والقانون 2/67 والقانون 28/67 وغيره من القوانين التي تتعلق بإنشاء لجنة الرقابة على المصارف والهيئة المصرفية العليا وتحديد التدابير والإجراءات اللازمة لدى وقف المصارف عن العمل ووضع اليد عليها… وبنتيجة تطبيق هذه القوانين، ستتضح المسؤوليات مباشرة، ثم تبدأ عملية توزيع الخسائر وفقاً للتراتبية الاقتصادية والاجتماعية التي تناسب لبنان والمعمول فيها دولياً، أي التراتبية التي تؤدي أولاً إلى تصفية رساميل المصارف وإجبارها على إعادة الأموال المحوّلة إلى الخارج في مدة الأزمة وربما ما قبلها، ثم يأتي دور شطب الودائع وصولاً إلى استخدام أصول الدولة. لكن بأي منطق يتم هذا الأمر؟ هل المسألة متعلقة فقط بشطب الخسائر وزجّ المرتكبين في السجون؟ قد تكون هذه بداية لمسار يفترض أن يمرّ بتحديد الأولويات والتضحيات التي يفترض تقديمها من أجل تحفيز الاقتصاد الذي يخلق فرص العمل ويكبح الهجرة. هناك كثير ممن ينتمون إلى الرأيين ولكنهم يفتقدون منطق الاقتصاد.
لماذا الفصل بين أسهم المصارف وسندات الدين المرؤوسة؟
ورد في خطة الحكومة أنها تسعى إلى تحويل قسم من الودائع بقيمة 9.42 مليارات دولار إلى أسهم في المصارف وسندات دين مرؤوسة. سيدفع أصحاب الودائع المصنّفة مؤهلة نحو 1.65 مليار دولار للحصول على أسهم في المصارف الجديدة التي ستنشأ بعد إعادة الهيكلة (كل مودع في المصرف الذي أودع فيه)، وأيضاً سيدفع هؤلاء 1.48 مليار دولار مقابل سندات دين مرؤوسة في المصارف الجديدة. أما أصحاب الودائع المصنّفة غير مؤهلة، فسيُسهمون من ودائعهم بقيمة 3.31 مليارات دولار في أسهم المصارف الجديدة، وبقيمة 2.96 مليار دولار في سندات الدين المرؤوسة. في الإجمال مساهمة المودعين في هاتين الأداتين تبلغ 3.14 مليارات دولار للودائع المؤهلة، و6.28 مليارات دولار للودائع غير المؤهلة.
ثمة فرق أساسي بين سندات الدين والأسهم المصرفية، هي أن الأولى هي دين على المصرف، يُسجّل ضمن رأس المال وليس لديها حقوق واسعة باستثناء العائد المالي، أما الثانية، فهي من صلب رأس المال ولديها حقوق كاملة في التصويت على اتخاذ القرارات في الجمعية العمومية وتوزيع الأرباح والاستثمار وغيرها.
بحسب مصادر مطلعة، فقد أتت هذه الفقرة بهذا الشكل لا لأن الخطة تريد تنويع محفظة «التسوية – الصفقة»، بل لأن أصحاب المصارف يريدون إبقاء سيطرتهم على مؤسساتهم التي ستخلق من جديد بعد إعادة الهيكلة ولا يريدون مشاركة المودعين الذين قد يكونون من «طائفة» مختلفة، في مشاركتهم في السيطرة على هذه المؤسسات. بمعنى أوضح، يجب أن تبقى بنية الملكية الطائفية في المصارف على حالها.