اغتالت قوات الاحتلال الإسرائيلي، أمس، القيادي في حركة فتح العميد خليل المقدح، الذي أعلن جيش العدو أنه كان يعمل على إيصال مساعدات عسكرية ومالية إلى مجموعات فلسطينية تنفّذ عمليات عسكرية في الضفة الغربية. وسبق لقوات الاحتلال، في الشهور والسنوات الماضية، أن نفّذت اغتيالات ضد مقاومين فلسطينيين ولبنانيين بسبب عملهم على دعم مجموعات المقاومة في الضفة.وفي ظل إدراك الجميع أن مصير الجبهة المفتوحة مع إسرائيل من لبنان يبقى رهن ما تصل إليه المواجهة في غزة، إلا أن سلوك العدو تجاه الساحة اللبنانية لم يعد منحصراً بالمواجهات اليومية مع المقاومة الإسلامية، بل يعمل على قاعدة أن لبنان يشكل مركز «الخطر الآخر»، المتمثّل برفع مستوى عمليات المقاومة الفلسطينية وفعاليتها في الضفة الغربية.
وطوال نصف قرن، لم تخف إسرائيل يوماً حساباتها مع لبنان ربطاً بما يجري في فلسطين. لكنّ العدو الذي يواجه وضعاً مختلفاً منذ التحرير في عام 2000، بات يتعامل مع الساحة اللبنانية كمصدر «وباء» قد ينتقل إلى الفلسطينيين الذين فهموا من درس أيار 2000 أن المقاومة المسلّحة وسيلة مجدية للتحرير. وهو أمر خبره العدو مع فتح الرئيس الراحل ياسر عرفات الأبواب أمام نشاط واسع في الضفة الغربية لمجموعات المقاومة من حركة حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، ومن حركة فتح نفسها. ويومها ظهرت إلى العلن «كتائب شهداء الأقصى»، أو الذراع العسكرية لحركة فتح في مواجهة قوات الاحتلال.
تميّزت «الكتائب» بهامش لم يتوافر لبقية الكتائب العسكرية. فهي ليست إطاراً رسمياً منظّماً من قبل قيادة «فتح»، ولم يرد عرفات لها أن تكون كذلك من اليوم الأول، إذ كان يدرك، هو ومن عملوا معه في إدارة الملف كالأسير مروان البرغوثي، أن «الغموض» ليس شرطاً أمنياً لحماية الكتائب أو من يديرها، بل هو شرط حاكم لاستمرارها، وكان ينظر إلى الأمر من خلال اعتبار أن أخطر ما يمكن أن يصيب هذا الجسم، هو أن يكون له عنوان واضح.
عملياً، أتاحت نظرية عرفات هذه للكتائب كي تتحول إلى إطار عسكري وشعبي يسمح لكل المعترضين على التنسيق بين السلطة الفلسطينية وقوات الاحتلال بالعمل من خلالها، كما أتاحت لقوى من خارج الساحة الفلسطينية، أن تتخذ منها عنواناً لنشاط مركّز ضد قوات الاحتلال، لكن من خارج أطر المقاومة التقليدية. كذلك أتاحت خلق ازدواجية في أداء عدد غير قليل من ضباط السلطة الفلسطينية، وهي ازدواجية لم تتمكن قوات الاحتلال من معالجتها تماماً حتى اليوم، رغم عملية الفرز الهائلة التي جرت مع تولّي محمود عباس إدارة السلطة وإيكاله أمر الأجهزة الأمنية إلى أشخاص يرفضون فكرة المقاومة مثل ماجد فرج وحسين الشيخ وآخرين. والمشكلة المشتركة للسلطة وإسرائيل أن التعبئة العامة لجمهور حركة فتح، لا يمكن حصرها في مواقف تتعلق بالمنافسة مع حركة حماس أو التيار الإسلامي عموماً، بل هي تعبئة تصيب يومياً الناس وقواعد فتح بما خصّ الصراع مع إسرائيل.
عملياً، اعتبرت إسرائيل أن عرفات نفسه، ومن بعده آخرون، فتحوا قنوات التواصل والتعاون مع حزب الله والحرس الثوري الإيراني، وأن من لا يريد التنسيق مع حركة حماس، يمكنه الحصول على الدعم من لبنان. وهو مركز الاهتمام الأمني اليوم لدى قوات الاحتلال وأجهزة السلطة الفلسطينية. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى مراقبة ما تقوم به أجهزة العدو بالتعاون مع أجهزة السلطة الفلسطينية والمخابرات الأردنية في الساحة اللبنانية، كونهم، يعتقدون بأن بيروت مسؤولة عن إدارة أكبر عملية تسليح للمقاتلين في الضفة الغربية، وأن الأمر لا يتعلق فقط بكتائب شهداء الأقصى، بل بحركتي حماس والجهاد الإسلامي أيضاً. وقد زاد منسوب القلق لدى قوات الاحتلال، بعد التطورات التي جعلت استخدام الحدود الأردنية مع سوريا والعراق أمراً متاحاً لمن يريد مساعدة المقاومة في الضفة الغربية بالعتاد والمال والسلاح والخبرات.
على هذه الخلفية، يمكن فهم النشاط الأمني الاستثنائي الذي تقوم به قوات الاحتلال في لبنان وسوريا. وحين يعجز الحلفاء من الأردن والسلطة، تبادر إسرائيل إلى العمل مباشرة. ومع تعثّر مشروع الفتنة الفلسطينية – الفلسطينية في مخيمات لبنان، بسبب اندلاع «طوفان الأقصى»، إلا أن العمل الحثيث مستمر لإبقاء النار مشتعلة، وما يجري العمل عليه هو التخلص من كل الأفراد أو المجموعات التي تمنع الانفجار الأهلي من جهة، وترفض التعاون مع قوات الاحتلال من جهة أخرى، ما يجعل الثمن يتضاعف، قبل أن يصبح ثقيلاً، عندما تجد إسرائيل أن الداعمين لخيار المقاومة من فلسطينيي لبنان وسوريا، قد انتقلوا إلى مستوى مختلف في الدعم، من خلال توفير المساعدة المباشرة لتعزيز وضع المقاومة في الضفة الغربية على وجه التحديد.
وبمعزل عن سبب عدم لجوء قوى محور المقاومة إلى نشر تفاصيل ما يجري من حرب أمنية تتعلق بالعمل الفدائي في الضفة الغربية، يعرف الجميع أن المخابرات الأردنية تلعب دوراً بارزاً في مواجهة هذا العمل نيابة عن قوات الاحتلال. وتدير عمان برنامجاً أمنياً وعسكرياً لوأد محاولات الدعم في مهدها، لكن الفشل في ذلك، دفع الجانب الأردني إلى إدارة اختراقات أمنية على الساحة اللبنانية لمتابعة النشاط المتعلق بالضفة الغربية، بالتزامن مع إعاقة وصول الأسلحة والعتاد إلى الضفة عبر الحدود الأردنية، سواء عبر البر، أو عبر المُسيّرات التي تُستخدم لنقل حاجات إلى المقاومين في الضفة، إضافة إلى ملاحقة الصرافين وناقلي الأموال.
وقد أبدت قوات الاحتلال قلقها من دور الساحة اللبنانية، في معرض مقاربتها الجديدة للوضع في الضفة الغربية. وتعمّد العدو عبر وسائل إعلامه، تسريب خلاصات وتوصيات لشعبة الاستخبارات العسكرية «أمان»، تشير إلى «مخاوف من تصعيد في الضفة، يلامس حد قيام انتفاضة مسلحة، وأن يندرج في إطارها العمل العسكري عبر زرع العبوات وتنفيذ عمليات انتحارية في إسرائيل». وجاءت عملية تل أبيب قبل أيام، لتشكل عنصراً إضافياً في البناء الجديد لسردية الخوف من الضفة، خصوصاً أن التحقيقات الإسرائيلية تشير إلى أن العبوة من إنتاج محلي. وهو مسار يراقبه العدو بقلق بسبب الاستخدام المكثّف للعبوات، والحافزية التي ازدادت في أوساط الشباب الفلسطيني في الضفة، ولا سيما في مخيماتها. ويقول العدو إن مخاوف أجهزته الأمنية تزداد حيال اندلاع انتفاضة كاملة تشهد مواجهات بالنار، لافتاً إلى «توفر السلاح بصورة كبيرة جداً بعدما ضاعفت إيران جهودها لتهريب السلاح إلى الضفة عبر الأردن وسوريا».