تبسيط المعادلة جنوباً ممكن بصورة كبيرة. نفّذت حركة “حماس” هجوماً نوعياً وغير مسبوق ضد قوات الاحتلال. وشنّت إسرائيل على إثره حرباً تدميرية غير مسبوقة أيضاً، ما أوجب على قوى محور المقاومة في لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران، وضع خطة للتعامل مع التطور النوعي. وكان القرار بأن تقوم كل جهة بالدور الذي يتناسب مع واقعها العسكري والميداني والاقتصادي والشعبي والسياسي. وهو ما تُرجم أشكالاً مختلفة من أنواع الإسناد التي انطلقت في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى وما زالت مستمرة. خلال الأشهر التسعة الماضية، حصلت تطورات ميدانية كثيرة، فرضت نفسها على جبهات الإسناد. في العراق، اضطرت فصائل المقاومة إلى وقف العمليات ضد القواعد الأميركية في العراق وسوريا نتيجة عدم نضوج الوضع السياسي داخل العراق. لكنها واصلت قصف الداخل المحتل. وفي سوريا، اتُّفق منذ اليوم الأول، على أنها “ساحة إسناد” وليست “جبهة إسناد”، والمقصود، أن قوى المحور لا ترى حاجة إلى مشاركة القوات السورية مباشرة في العمل الإسنادي، لكن دمشق، أبقت على ساحتها مكاناً يتيح لقوى المقاومة، ومن جنسيات مختلفة، التحرك بما يتناسب مع ظروف المعركة. ولم تعترض القيادة السورية على ضرب قواعد الاحتلال الأميركي الموجودة على أراضيها.
في اليمن، حصل اختبار جديد لكل العالم، وليس لمحور المقاومة فقط. كان تنظيم أنصار الله، يعيش فترة هدوء بعد تسوية وقف إطلاق النار مع السعودية ومرتزقتها في اليمن، لكنّ التنظيم الفتيّ، تفرّغ لتعزيز قوته العسكرية. وأدار برامج عمل مكثّفة أنتجت خلال أقل من عامين الكثير من النتائج المبهرة بحسب المتعاونين معهم من قيادات بقية محور المقاومة. وكان قرار أنصار الله حاسماً، بالعمل فوراً على دعم غزة بكل الإمكانات الممكنة. والذي لا يعرفه العالم عن هذه المجموعة، نتيجة جهله من جهة، واستعلائه من جهة أخرى، أن قرار “أنصار الله” يتجاوز كل أنواع الحسابات التي ربما يتم العثور عليها عند آخرين من قوى محور المقاومة. ولذلك، رفع “أنصار الله” شعاراً واضحاً وطموحاً، وهو القيام بكل الأعمال العسكرية الهادفة إلى وقف الحرب على غزة ورفع الحصار عنها، وأطلق برنامج عمل، أذهل العالم، وجعل الولايات المتحدة الأميركية تقف عاجزة أمام من قرّر كسر سيطرتها على عالم البحار.
حزب الله لن يقرر خطواته قبل الوقف التام للحرب على غزة، ولا يجد ما يفرض إدخال أي تغييرات عمّا كانت عليه الأمور قبل 7 أكتوبر
في لبنان، التحدي له شكله المختلف. هناك كمية كبيرة جداً من الحسابات التي يجب على قيادة المقاومة الأخذ بها. تبدأ بالفعل الميداني المناسب لخدمة المقاومة والناس في غزة، وتشمل آليات وبرامج وأنواع العمليات العسكرية، وتصل إلى سقف ومساحة المعركة المفترض الدخول فيها. وكل ذلك، يتم وفق حسابات تراعي قدرات وحاجات المقاومة من جهة، وواقع لبنان السياسي والاقتصادي من جهة ثانية. وهو ما أنتج برنامج عمل، بدأ تنفيذه على عجل، وحصل بعض الارتباك الناجم عن كون معركة الاستنزاف لم تكن واردة في حسابات المقاومة.
مرت الأشهر التسعة في لبنان، واختلفت فيها الأوضاع الميدانية. وحصلت تطورات فرضت إدخال أسلحة وتكتيكات جديدة، والكشف عن أسلحة نوعية والتلويح بضربات أكثر نوعية وصولاً إلى تهديد العدو، بأنه في حال قرّر المغامرة بحرب واسعة ضد لبنان، فإن المقاومة تعدّ له العدة التي تعمل وفق قاعدة جديدة، ليس فيها من ضوابط وسقوف. وهو ما مثّل التحدي الأكثر قساوة للعدو وحلفائه، خصوصاً أن المقاومة أعطت إشارة إلى المدى الذي يمكن أن تذهب إليه في حالة الحرب الواسعة، عندما وجّهت تحذيراً مباشرةً إلى حكومة قبرص من مغبة إتاحة أراضيها للاستخدام من قبل العدو. وهو تحذير وُجّه مباشرة إلى قبرص، لكن صداه وصل إلى عدد غير قليل من الدول الأوروبية وغير الأوروبية التي تتعاون تقليدياً مع الأميركيين والإسرائيليين.
الجديد اليوم، هو المتصل بكون الحرب الإسرائيلية على غزة فشلت في تحقيق هدفيها المركزييْن، إن لناحية سحق المقاومة واستعادة الأسرى، أو لجهة فرض حكم بديل قائم على ترتيبات أمنية خاصة مع العدو. وكل المكابرة التي نراها في سلوك قادة العدو العسكريين والأمنيين والسياسيين، سرعان ما تظهر على شكل انقسامات عند مقاربة أي مشروع اتّفق أن يعرضه الأميركيون لوقف الحرب. ويعرف أهل الكيان، أن أميركا نفسها، التي لم توفر دعماً إلا وقدّمته إلى العدو، باتت مقتنعة بأن إسرائيل عاجزة عن تحقيق أهدافها، وباتت أميركا تخشى ليس فقط على خسارة استراتيجية لإسرائيل، بل على أن تخسر أميركا نفسها نفوذاً استراتيجياً أتاح لها التحكم بكل المنطقة أو غالبية دولها وثرواتها. وهو ما أوجب تدخلاً مختلفاً في الآونة الأخيرة، حيث تعمل إدارة الرئيس جو بايدن على خطة تتيح وقفاً للحرب بما يتناسب مع طلبات إسرائيل “الواقعية” وبما يخدم برنامج بايدن الانتخابي أيضاً، دون إهمال هواجس حلفاء أميركا من العرب الذين يريدون التخلص من “حماس” ومن كل المقاومة في المنطقة.
صحيح أنه يجري التداول اليوم في صيغة أميركية جديدة لمشروع تسوية توقف إطلاق النار في غزة. وواضح من التسريبات التي وردت من الأطراف المعنية، أن واشنطن التي تراعي دوماً هواجس الاحتلال، أدركت أن المقاومة في غزة ليست بوارد أي تنازلات بعد، ما أوجب على مدير الاستخبارات الأميركية وليام بيرنز إعداد صياغة جديدة، من شأنها مساعدة قطر ومصر وتركيا على إقناع حماس بالقبول بالمقترح المعدّل. وهو ما يمثّل اليوم جوهر الاتصالات الجارية منذ أربعة أيام دون توقف، وحيث بزر عامل جديد، تمثّل في بدء جيش الاحتلال والمؤسسات الأمنية التصريح علناً، بحاجتهم إلى اتفاق الآن، خشية أن تؤدي إطالة الحرب إلى خسائر أكبر لإسرائيل دون القدرة على تحصيل اتفاق أفضل لاحقاً. وهذا هو بالضبط ما يفسر “التفاؤل” الإضافي بإمكانية التوصل إلى حل، ولو أن الجميع، من داخل الكيان إلى الإدارة الأميركية إلى مصر وتركيا وقطر وحتى المقاومة، ينتظرون المناورة الأخيرة لرئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو الذي يظهر الوحيد غير الراغب بوقف الحرب.
الأميركيون يريدون «ترتيبات» لأجل عدم إظهار العدو خاسراً، ولأجل «طمأنة» المستوطنين كي يعودوا إلى مستعمرات الشمال
وبما أن وقف الحرب في غزة يوجب وقف جبهات الإسناد، فإن طبيعة الاتفاق الذي سيتم على أساسه إعلان وقف الحرب، وإطلاق عملية إعادة الإعمار في القطاع، هي ما تتوقف عليه قرارات جبهات الإسناد، سيما أن كل قوى محور المقاومة، سبق لها أن أقرت بأن حماس هي الطرف الذي يقود المعركة ميدانياً وسياسياً، وأنها هي من يتخذ القرار النهائي، علماً أن قيادة حماس، تتصرف مع الحلفاء من الفلسطينيين وبقية أطراف المحور، على أنهم شركاء كاملون في القرار، وهو ما يفسر التشاور المستمر والتفصيلي الجاري بين الجميع.
وإذا كان العدو يهتم بمصير الوضع في غزة، ويضع تصورات خيالية لما يريد القيام به هنالك، إلا أنه يهتم الآن لكيفية تعامل جبهات الإسناد في حال التوصل إلى وقف لإطلاق النار. وبناءً عليه، فإن الأنظار التي تتوجه صوب الجبهة اللبنانية، تنطلق من السؤال حول طبيعة المعادلة التي ستقوم، بناءً على سيناريوهات مطروحة. منها ما يقول بأنه في حال الاتفاق على وقف النار أو التهدئة سيوقف حزب الله العمليات تلقائياً وتعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل 7 أكتوبر. وهو خيار لا يقبل به العدو، كونه يُعد خسارة كبيرة له، لأنه يكون قد أقر بقواعد اللعبة السياسية مع حزب الله بعدما اضطر إلى الخضوع لقواعد الاشتباك التي وضعتها المقاومة خلال القتال، ولذلك يبرز العدو مطالبه
بالتوصل إلى اتفاق جديد يشمل ترتيبات أمنية تتعلق بجنوب الليطاني، وهي مطالب يُستبعد أن توافق عليها المقاومة، ما يجعل العدو ومعه الولايات المتحدة أمام وضع إشكالي، الأمر الذي يفسر الجولات الدائمة للمبعوث الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتين إلى لبنان والكيان وإلى دول أخرى، سعياً خلف صيغة محددة تناسب مطالب إسرائيل.
وبما أنه يصعب حصول العدو على مطالبه، والتي تشتمل على فرض واقع أمني وعسكري جديد في منطقة الحدود مع فلسطين المحتلة، فإن عدم التوصل إلى اتفاق سيجعل العدو أمام مفترق طرق حاسم حول خياراته المقابلة: هل يواصل اعتداءاته، ولكن بوتيرة أشد ومتصاعدة، أم يشن عملية جوية أوسع مما شهدناه، سابقاً، أم يقوم بعملية برية محدودة، أم يذهب إلى خيار الحرب الواسعة؟.
وأمام صعوبة ترجيح أي من الخيارات العسكرية لدى العدو، تجد المقاومة نفسها أمام عملية استعداد جدي وفعلي لكل الخيارات. وهو أمر يترافق مع توضيحات سياسية يردّدها قادة الحزب في كل مناسبة. والأكيد، أن قياس المنجزات الاستراتيجية لهذه المعركة (بحجمها الحالي) لا يوجب على الحزب التصرف أبداً على نحو المستعد لتقديم تنازلات، بل قد يكون واضحاً للعدو أو للجانب الأميركي، أن أكثر ما يمكن للحزب الموافقة عليه، هو إعادة الأمور في كل جنوب لبنان إلى وضع كان قائماً قبل الحرب، وأن أي مطلب إسرائيلي بخطوة أمنية أو عسكرية في الجانب اللبناني، يفترض أن يقدّم العدو مقابلها خطوة أمنية وعسكرية في الجانب الآخر من الحدود. لكن الحزب لم يقفل يوماً الباب أمام علاجات يعرف العدو أنها صورية، مثل إعلان رسمي من الحكومة في لبنان عن التزام القرارات الدولية وتعزيز انتشار الجيش جنوباً ورفع مستوى التنسيق مع قوات الطوارئ الدولية العاملة هناك… وليس أكثر من ذلك!