أحد فصول الشهادات المزوَّرة على خط لبنان – العراق التربوي
كارين عبد النور - نداء الوطن
لا تزال مآثر الفساد في وزارة التربية تتفاعل كالنار في الهشيم، رغم محاولات جهات رسمية عليا «لملمة» الملف ووقْف التحقيق فيه. فسْخ قرار تخلية سبيل أمينة سرّ لجنة المعادلات بالتكليف، أمل شعبان، يُعدّ خطوة أساسية للتوسّع بـ»فضيحة» تزوير معادلات وشهادات لطلّاب عراقيين مقابل رشاوى مالية. لكنها تبقى خطوة ناقصة طالما أن هناك جامعات متورّطة وسماسرة لم تطلهم التحقيقات بعد.
الملفّ متشعّب والصفقة التي طاولت 27 ألف طالب عراقي… «حرزانة». والأنظار توجّهت، بالمقام الأوّل إلى جامعات ثلاث: الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم؛ جامعة الجنان؛ والجامعة الإسلامية. إذ نشط هناك عمل السماسرة ومعقّبي المعاملات وبعض الموظّفين اللبنانيين كما العراقيين في معادلة وبيع وتزوير شهادات جامعية لطلّاب عراقيين. أما المتورّطون، فشبكة يتوزّع أفرادها داخل وزارة التربية وخارجها، حيث تمكّنوا من جني مبالغ طائلة لقاء تسهيل المعاملات ومنح التواقيع. لكن ماذا عن الجامعات الأخرى وأين السماسرة الذين انتقلوا إلى خارج لبنان دون حسيب ولا رقيب بعد أن كانوا رأس حربة في هذا الملف؟
قصة «إبريق الزيت» هذه ليس غريبة عنّا. لكن التحقيقات التي فُتحت على مصراعيها الشهر الماضي أعادتها إلى الواجهة. ففي عودة إلى تشرين الثاني 2021، أصدرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق قراراً يقضي بسحب الملحق الثقافي من السفارة العراقية في بيروت، هاشم الشمّري، وإعادته إلى بغداد، وبتعليق دراسة الطلّاب العراقيين في الجامعات اللبنانية الثلاث المذكورة لعدم التزامها بمعايير الرصانة العلمية. ثم في تموز 2022، ونتيجة تفاقُم فضيحة بيع الشهادات الجامعية، أوقف العراق التعامل مع كافة جامعات لبنان باستثناء الأميركيّتين.
«نداء الوطن» خرقت جدار صمت بعض الطلّاب من الجنسيّتين في جامعة الآداب والعلوم والتكنولوجيا في لبنان (AUL)، في محاولة لكشف مزيد من المستور. معطيات علّها توضع في يد القضاء.
شبكة منظَّمة
«الأمور كانت على ما يرام داخل الجامعة إلى أن تقرّر استقبال طلّاب عراقيين منذ حوالى أربع سنوات. بعد فترة، بدأنا نقرأ أسماء طلّاب لم نرهم يوماً على مقاعد الدراسة رغم إلزامية الحضور، كما رحنا نلحظ تلاعباً في علامات البعض منهم». هذا ما أخبرنا به أحد الطلّاب اللبنانيين في جامعة الـ AUL. وبين «تظبيطَين» – الحضور والعلامات – رفع الطلّاب الصوت إلى الأساتذة الذين أوصلوا الشكاوى إلى رئيس الجامعة وقتها، مطانيوس الحلبي. فما كان من الأخير إلّا أن طلب منهم عدم الانصياع خلف الشائعات ناكراً معرفته بما يحصل. ليس هذا فحسب. فقد أكّد لنا أكثر من طالب أن الامتحانات كانت تُسرَّب وتُباع للطلّاب العراقيين قبل موعدها حيث وصلت تسعيرة الامتحان الواحد لأكثر من 700 دولار. فمن كان يقف وراء تلك الممارسات؟
مصادر إدارية في الجامعة أكّدت لـ»نداء الوطن» تَورُّط كلّ من ممثّلة أمانة سرّ لجنة المعادلات في التعليم العالي، (أ.ع.)، الموقوفة حالياً، والسمسار (ر.ح.)، الذي فرّ إلى الخارج والملاحَق من قِبَل شعبة المعلومات، مشيرة إلى علاقة مميّزة تربط الأخير بالحلبي وبعميد كليّة إدارة الأعمال آنذاك، جهاد طقّوش. فمن هو (ر.ح.)؟ إنّه السمسار رقم واحد في ملف تزوير الشهادات للعراقيين، عمل بالشراكة مع سمسار آخر يُدعى (ج. ب.) وكان يحضر إلى الجامعة لإتمام معاملات الطلّاب العراقيين ويرحل معهم. وهو سمسار سابق في كلّ من جامعة الجنان والجامعة الإسلامية اللتين تورّطتا أيضاً بتزوير شهادات ومعادلات، وكان يتقاضى قرابة 600 دولار عن كل معاملة. لـ (ر.ح.) كذلك مكتب بالقرب من جامعة الجنان حيث يقوم ببيع رسائل الماجستير للطلّاب العراقيين بمبلغ لا يقلّ عن 1200 دولار للرسالة الواحدة. ويُحكى أن الأخير جنى ثروة طائلة نتيجة أعماله هذه مستفيداً من علاقته بالحلبي، المحسوب علناً على الحزب التقدّمي الاشتراكي. وتشير معلومات لـ»نداء الوطن» بأنّ (ر.ح.) «يسرح ويمرح» حالياً في مصر ويعمل على فتح مكتب سمسرة وبيع شهادات هناك. فهل تتحرّك الجهات القضائية اللبنانية قبل أن يحصد ضحايا «تربويّين» إضافيّين؟
بين بيروت وطرابلس
نتابع مع الطلّاب. ونسمع بأن معظم الشهادات التي زُوّرت مرتبطة بمجال إدارة الأعمال، حيث بلغ عددها حوالى 1200 شهادة تعود جميعها لطلّاب عراقيين. «هؤلاء لا يأتون إلى حرم الجامعة إلّا في خلال الامتحانات النهائية. يمضون شهراً في لبنان قبل أن يعودوا أدراجهم إلى العراق. العميد مرتّبلن الحضور، و(ر.ح.) مظبّطلن العلامات على السيستم ومسرّبلن الامتحانات ومحضّرلن رسالة الماجستير. وشو بدّن أكثر من هيك؟». بعض التسجيلات الصوتية التي حصلنا عليها تؤكّد كيف كان يتمّ بيع الامتحانات وتناقُلها من طالب لآخر. كلّ ذلك بِعِلم رئيس الجامعة وعميد الكليّة. غير أن الشبكة لم تكن محصورة بفرع الجامعة في بيروت، بل امتدّت إلى فرع طرابلس الذي يرأسه شقيق الحلبي. وهما الفرعان الوحيدان للجامعة اللذان استقبلا طلّاباً عراقيين. فإلى فرع طرابلس.
يخبرنا أحد الأساتذة عن حادثة طريفة حصلت سنة 2020 هناك، حيث نجح كافة الطلّاب العراقيين بتفوّق وتراوحت علاماتهم بين 95-100 على 100. «حينها طُرحت علامات استفهام كبيرة لعِلمنا بمستوى الطلّاب. فأصرّينا على إعادة الامتحانات ليرسبوا جميعاً وينال معظمهم صفراً. لكن لا ندري إن كان قد جرى دفْع رشاوى للتلاعب بالعلامات مجدّداً. حينها، تبيّن لنا أن الشبكة نفسها تقوم ببيع الامتحانات في فرع طرابلس مقابل مبلغ يتراوح بين مليون ومليون ونصف المليون ليرة عن كل امتحان. والملف انعكس ظلماً على كثير من الدكاترة الذين حاولوا فتحه. فثمة بينهم من رحل بصمت ولم يتمكّن حتى من استرجاع حقوقه».
رئاسة جديدة بطاقم قديم
كيف يصف أحد أفراد الكادر التعليمي واقع الأساتذة في الجامعة؟ «أصبحت سمعتنا كدكاترة في الجامعة سيّئة جداً. بتنا لا نسمع من الطلّاب سوى عبارة «حقّك خدو ومرّقنا متل غيرنا». والمؤسف أكثر أنه تمّ «تطيير» بعض المسؤولين والدكاترة الذين فضحوا ملف التزوير والرشاوى، ولأسباب مسلكية لم نعرفها حتى الساعة، في وقت ما زال فيه المتورّطون من دون محاسبة. والمذلّ أكثر أننا كنا نتقاضى 35 ألف ليرة لقاء ساعة التعليم للطلّاب العراقيين بينما كانوا هم يجنون مبالغ هائلة. فأين العدل في ذلك؟». سؤال ينتظر صحوة ضمير ما. لكن أيّ ضمير ولم تكتفِ شبكة الفساد بما حصّلته، بل وصل بها الأمر إلى بيع رسائل الماجستير مرة ثانية لطلّاب من الجامعة الإسلامية ومن جامعة جنان وتقاضي ثمنها مرّتين، وذلك باعتراف إحدى الموظّفات المقرّبات من الحلبي.
تخبرنا مصادر مطّلعة أن الحلبي تقدّم باستقالته أواخر العام الدراسي الماضي، بعد أن فقدت الإدارة سيطرتها على الملف، ليتمّ تعيين بسام الحجار خلفاً له. وقد قام الأخير بفصل عميد الكليّة مؤكّداً معرفته بكل ما حصل. غير أن مصادر أخرى حسمت لـ»نداء الوطن» الإبقاء على بعض أذرع الشبكة السابقة ومن بينها الدكتور (ع. ح.) الذي عُيّن بدلاً من إحدى الإداريات التي أقيلت من منصبها بعد فتحها ملف التزوير. و(ع. ح.) كان يقصد محافظة الأنبار العراقية ويقيم دورات تدعيمية للطلّاب العراقيين، كما يسرّب الامتحانات ويقوم بتحضير رسائل الماجستير لهم مقابل مبالغ تخطت الألف دولار عن كل رسالة.
تحرُّك «التربية»… «رفْع عتب»
لكل هذه الأسباب، صدر عن وزارة التربية نهاية آب الماضي قرار بمنع جامعة الآداب والعلوم والتكنولوجيا (AUL) من استقبال طلّاب جدد في برنامج دبلوم التعليم في اختصاصاته كافة للعام الدراسي 2023-2024، كما في برنامج ماجستير علوم هندسة المعلوماتية والاتصالات، ماستر علوم المعلوماتية والاتصالات، الماستر التنفيذي في إدارة الأعمال والماستر في إدارة الأعمال. ومع ذلك، ما زال (ع. ح.) يتواصل مع الطلّاب في محاولة لحثّهم على التسجيل لنَيل شهادة الماجستير، في مخالفة واضحة للقانون وإمعاناً في ابتزازهم. هنا، لا بدّ من التذكير بأن (AUL) سبق أن تورّطت بفضيحة بيع شهادات مزوّرة كُشفت في تموز 2018، حيث أُوقِف حينها مؤسّسها الراحل عدنان حمزة وطالت القضية مدير عام التعليم العالي في وزارة التربية، أحمد الجمال.
وهذا غيض من فيض ما يمكن أن يُكتب عن مهزلة تزوير الشهادات في لبنان. هنا طالب لبناني دفع مبلغ 7 آلاف دولار أميركي لعميد إحدى كليّات الجامعة للحصول على شهادة ماجستير في إدارة الأعمال وهو اليوم يعمل في أفريقيا. (لِمَ لا وختْم العميد معتمَد لدى أمين سرّ لجنة الاعتراف بالدراسات ومعادلة شهادات التعليم العالي، عبد المولى محمد شهاب الدين، ما يخوّله ارتكاب ما ارتكب). وهناك شابّة وصلت إلى لبنان العام الماضي من الجزائر لتستحصل على شهادة ماجستير مزوّرة في العلاج الطبي التجميلي من جامعة بغداد الطبية، وتمارس مهنة التجميل في منازل اللبنانيات، علماً أن عملية التزوير حصلت في منطقة عرسال البقاعية. و»مِتلا ومَتايل».
على أي حال، ما زال 1200 طالب عراقي ينتظرون الحصول على شهاداتهم بعد أن نجحوا جميعاً في مناقشة رسائل الماجستير! فالشهادات ما زالت عالقة بين رؤوس مافيا الجامعة ووزارة التربية، بانتظار تسديد كل طالب مبلغاً إضافياً (لم يكن مدرَجاً على لائحة الاتفاق مع السماسرة) بقيمة 600 دولار للحصول على الشهادة. ناهيك بملفات أخرى «ضاعت» فجأة داخل مكاتب الإدارة فأكل أصحابها «الضرب». أما صبر طلّاب جامعة الآداب والعلوم والتكنولوجيا العراقيين فقد بدأ ينفد، بحسب ما علمنا. ويأتي ذلك رغم التهديدات التي وصلتهم بعدم إنجاز معاملاتهم إن تقدّموا بشكاوى. فأيّ مآثر إضافية سيكشفها تمرُّد هؤلاء، فيما لو تمرّدوا؟