
على رغم من كل محاولات ضبط إيقاع العلاقة المتذبذبة بين رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، إلّا أنّها غالباً ما تخرج عن «النوتة» المفترض أن تكون ناظمة لها، تحت وطأة ارتفاع منسوب الخلافات وأزمة الثقة.
من الأساس، لم يكن العماد جوزاف عون هو الخيار المفضّل والأول للرئاسة لدى جعجع، الذي كرّر أكثر من مرّة، قبل انتخاب عون، أنّه يجهل حقيقة خياراته وأفكاره، كون قائد الجيش يلتزم عموماً الصمت، وليس طرفاً في الاصطفافات السياسية، وأنّه يحتاج إلى التعرّف إليه عن قرب حتى يحسم موقفه النهائي منه، وإن كان قد حرص في الوقت نفسه على التأكيد أنّه لا يعارض من حيث المبدأ انتخابه.
وعندما رجّح الصوت الخارجي التفضيلي كفة عون ورست التسوية على اسمه، انخرط جعجع في هذا المسار، فصوّتت كتلته النيابية لانتخاب «عون – 2» رئيساً، وشارك في الحكومة الأولى عبر عدد من الوزراء، ما أوحى بأنّه سيكون رافعة للعهد وداعماً له.
لكن ما لبثت الأمور أن بدأت تتغيّر مع تلاحق الأحداث وظهور الفوارق والتباينات في مقاربتها بين بعبدا ومعراب، ما أدّى شيئاً فشيئاً إلى انخفاض في الحرارة التي طبعت بدايات العلاقة، مقابل صعود في مشاعر الإرتياب المتبادل، ما أوحى بتكرار سيناريو ميشال عون – سمير جعجع اللذَين كانا متحالفَين في مطلع ولاية الجنرال، قبل أن ينقلب السمن والعسل سُمّاً وعلقماً!
وغالب الظنّ، أنّ هناك في الأصل «نقزة فطرية»، ولو ظلّت كامنة إلى حين، بين رئيس الجمهورية ورئيس «القوات»، ربطاً بالتكوين الشخصي والتاريخ المعاصر، إذ إنّ الأول منبثق من نسيج المؤسسة العسكرية، بينما الثاني يقود تنظيماً سبق له أن واجه تلك المؤسسة.
يُضاف إلى ذلك، أنّ جوزاف عون أصبح منذ انتخابه جزءاً من معادلة الزعامات المسيحية، وبالتالي بات يُنظر إليه كمنافس محتمل، راهناً أو مستقبلاً، على الشعبية في الوسط المسيحي.
أمّا على المستوى المباشر، فيختلف الرجلان وعلى نحو أساسي، حول نمط مقاربة ملف حصر السلاح، إذ يستعجل جعجع سحبه من «حزب الله» وفق روزنامة مكثفة وآلية صارمة، ولو أدّى ذلك إلى حصول مواجهة بين الجيش و»الحزب»، فيما يُفضِّل عون تطبيق قرار حصر السلاح بالتي هي أحسن ومن دون استخدام العنف، لمعرفته بالتداعيات الوخيمة التي ستترتب على الصدام مع مكوّن داخلي وازن، ولحرصه على عدم نحر عهده في عامه الأول، خصوصاً أنّ مثل هذا النمط من المغامرات مجرّب، أقلّه في أيام الرئيس أمين الجميل، حين أفضت المواجهة ضدّ حركة «أمل» و«الحزب التقدّمي الإشتراكي»، واستطراداً البيئتَين الشيعية والدرزية، إلى انقسام الجيش وتشرذمه.
وهناك مَن يلفت إلى أنّ جعجع نفسه خاض هذا الاختبار، وتجرّع كأسه المُرّة في مرحلة حرب الإلغاء، التي أفضت إلى تدمير المنطقة الشرقية، وبالتالي يجب أن يكون الأدرى بأكلاف خيار المواجهة الداخلية، والأكثر تفهّماً لدوافع عون إلى تفادي تكرار التجربة.
وقد أتت الرسالة المفتوحة التي وجّهها جعجع إلى رئيسَي الجمهورية والحكومة لتُكرِّس الافتراق عن عون في مسألة التعامل مع سلاح «حزب الله»، ولتراكم مزيداً من الجليد السياسي على خط معراب – بعبدا، إذ اتهم جعجع رئيس الجمهورية وأيضاً رئيس الحكومة، بمسايرة «حزب الله» وتمييع خطابهما السياسي، مبدِياً أسفه لكون الفرح بتوليهما المسؤولية لم يُترجم حتى الآن أمناً واستقراراً وثقة في المستقبل.
ولعلّ حجم غضب معراب ومناصريها على عون بسبب عدم دعوة جعجع إلى اللقاء مع البابا لاوون الرابع عشر في قصر بعبدا، يعكس مستوى النفور والإنزعاج لدى القواتيِّين، قيادة وقاعدة، من رئيس الجمهورية، ويؤشر إلى أنّ القصة الحقيقية ليست مجرّد رمانة بل قلوب ملآنة.
ومن الواضح أنّ عون بدوره غير مطمئنّ إلى سلوك جعجع وحقيقة نياته، وهو ترجم توجّسه عبر هجومه الشهير على بخاخي السُم في واشنطن قاصداً من ضمنهم «القوات»، كما أجمعت التفسيرات، ثم عزّز هذا الإنطباع بالإمتناع عن دعوة جعجع إلى مناسبة الإحتفاء بالبابا في القصر الجمهوري، في موقف مغلّف بقشرة بروتوكولية لكنّ بطانته سياسية.




