اقتصادالرئيسية

كيف تمكّن لبنان من دولرة اقتصاده مُدمّرا القاعدة الضريبيّة؟

جاسم عجاقة - الديار

خمس سنوات مرّت على بدء الأزمة الإقتصادية في لبنان، قام خلالها بدولرة إقتصاده بشكل كامل وغير رسمي. هذه الخطوة التي أتت نتاج اليأس والأزمة التي عصفت بلبنان، أدّت إلى نتائج مشكوك بأمرها، إذ أنها كانت تهدف في الأساس إلى تحقيق الإستقرار، إلا أن الواقع على الأرض هو أن اللبنانيين يتعاملون بعملة غير عملتهم الوطنية، ودون الأدوات اللازمة للتعافي المالي، مما يُقوض سيادة الدولة المالية بشكل أساسي. أضف إلى ذلك، أدّى فقدان الثقة بالقطاع المصرفي وإنخفاض سعر صرف الليرة، إلى تخلّي المواطنين عن الليرة لصالح الدولار الأميركي، وخلق إقتصاد “كاش”، يُشكّل أكثر من 45% من إجمالي النشاط الإقتصادي، بحسب أرقام البنك الدولي.

ويُمكن إختصار المشهد الحالي بأن الدولرة هي نتاج نفوذ قوى السوق ، في وقت تتظاهر فيه الدولة بأن الليرة لا تزال تخدم الاقتصاد. هذا المشهد هو طريق مُعبّد نحو إنهيار مالي مستمرّ، فالدولرة تخدم قبل كل شيء نخبةً صغيرةً من حاملي الدولار وإقتصاد “الكاش”، بينما تُشلّ الدولة ويُعاقب الفقراء.

فشل فعلي لقرار الدولرة
أخذت الحكومة السابقة قرار دولرة الاقتصاد (بشكل غير رسمي) من خلال ثلاثة وزراء: الاتصالات والطاقة والمياه والإقتصاد والتجارة، عبر تشريع الفوترة بالدولار الأميركي خلافًا للقانون، ومن دون أن يكون هناك مرتكزات دولة مُدولرة رسميا. هذا التمييز بين الدولرة الرسمية والدولرة de facto هو أمر بالغ الأهمية. فتسعير السلع والبضائع والخدمات (مواد غذائية، مواد إستهلاكية، إشتراكات المولدات، المحروقات، الإيجارات …) تمّ بالدولار الأميركي بما فيها الدفع، من دون أي قدرة على الرقابة الفعلية. أضف إلى ذلك أن كل هذه العمليات تتمّ بإستخدام دولارات خارج القطاع المصرفي، أو ما يُعرف بالـ Fresh Dollars التي تُستخدم أيضا في التحويلات الإلكترونية ، عبر شركات تحويل الأموال والصيارفة والتطبيقات غير المصرفية. والأصعب أن هذه التحويلات تخطّت تحويلا القطاع المصرفي!

وكنتيجة لهذا الأمر، وعلى الرغم من إستقرار الليرة اللبنانية مُقابل الدولار الأميركي، إلا أن الواقع هو أن لبنان يمتلك الآن عملة غير موثوق بها ، نتيجة غياب الإجراءات النقدية التي أفقدت مصرف لبنان مصداقيته، ودفعته إلى الإعتماد على سياسة بدائية تنصّ على سحب الليرة من السوق للحفاظ على قيمة الليرة. وهو ما يُعدّ إجراء غير جدّي ينصّ على سحب الليرة من التداول ، بدلا من القيام بإصلاحات مالية حقيقية تُعيد الليرة إلى التداول، وتُحافظ على قيمتها من خلال النمو الإقتصادي.

شرخ في المجتمع اللبناني
أحدثت الدولرة غير الرسمية شرخا كبيرا في المجتمع اللبناني، بين بيئة تعتمد على أجر شهري مُقوّم بالليرة اللبنانية، وبيئة لها مدخول بالدولار الأميركي. ويكفي النظر إلى محتوى السلّة الإستهلاكية لمعرفة فظاعة هذا الشرخ:

– أولاً : حتى الساعة، مُعظم الأجور لم تصلّ إلى ثلث ما كانت عليه قبل الأزمة، مع إستمرار دفع الأجر بالليرة اللبنانية، قسم منه مُقوّم بالدولار الأميركي (!) وقسم آخر بالليرة اللبنانية، خصوصا في القطاع العام وفي مُعظم الشركات.

– ثانياً : أدّت الأزمة إلى تآكل القدرة الشرائية للمواطن، ولم تؤدّ المُساعدات الاجتماعية في القطاع العام، أو التعديلات في الأجور في القطاع الخاص، من إعادة القدرة الإستهلاكية للمواطن. هذا التآكل أصبح مخفيا خلف عباءة الدولرة، حيث يتم رفع الأسعار بالدولار الأميركي ، ويتمّ التحويل إلى الليرة على أساس سعر صرف ثابت 89500 ليرة لبنانية للدولار الواحد.

– ثالثاً : نتيجة ضعف القدرة الشرائية، تغيّر السلوك الإستهلاكي لدى فئة كبيرة من اللبنانيين، خصوصا أن الإستهلاك الأساسي (كهرباء، مولدات، وقود، إنترنت، إتصالات) يستحوذ على نسبة كبيرة من الدخل ، تاركا قّلة قليلة من المال للإستهلاك الغذائي وبقية الإحتياجات. لذا وعندما يُعطي الإحصاء المركزي تضخّم 15% على أساس سنوي، فإن السلّة التي يعمل عليها، لم تعد تعكس سلوك الإستهلاك لدى الأسرة النموذجية.

شحّ إيرادات الدولة

أدّى تفشّي إقتصاد “الكاش” إلى إستنزاف مالي كبير في مالية الدولة، التي عجزت عن تمويل الخدمات العامة الأساسية أو تنفيذ إصلاحات مالية جدّية:

– أولاً التهرب الضريبي: يُمكن الجزم أن كل المعاملات التي تُجرى بالنقد، تمرّ من تحت “أنف” وزارة المال والإدارة الضريبية، من أن تأخذ حصّة الدولة منها. وبحساب بسيط وإستنادا إلى أرقام البنك الدولي، يُمكن القول إن الإيرادات الضريبية إنخفضت أقلّه إلى النصف.

– ثانياً : كنتيجة لهذا التراجع بالإيرادات الضريبية، إضطرت وزارة المالية إلى الاعتماد بشكل كبير على الضرائب والرسوم الجمركية (مُدولَرة). هذا الأمر يزيد العبء على المستهلكين الأكثر فقرا، مما يتعارض والمبدأ الأساسي للضرائب العادلة.

– ثالثاً : من جهة ميزانية الدولة، فهي عالقة بين النفقات المقومة بالليرة والتوجه المتزايد نحو دولرة الإيرادات (الجمارك، والتعريفات الجمركية، وفواتير الاتصالات). هذا الأمر يُحدث اختلالات دائمة ويحول دون شفافية المحاسبة، وهو شرط أساسي لاتفاقية صندوق النقد الدولي على مستوى الخبراء.

 

الشفافية والإصلاح القانوني

الخروج من هذا الواقع المؤذي إجتماعيا وإقتصاديا يتمثّل بتخلّي الحكومة عن “التعتيم المُبتكر”، وتبني إصلاحاتٍ شفافة نذكر منها:

– إستعادة السيادة المالية للدولة، من خلال القضاء على إقتصاد “الكاش”، وهو ما يتطلّب تنفيذ خطة شاملة وشفافة تذهب بإتجاه إمّا دولرة الموازنة العامة (بما في ذلك الإيرادات والنفقات)، وإما العودة عن الدولرة (خيار خطر في ظل غياب الإصلاحات في القطاع العام وإعادة هيكلة الدين العام). هذه الدولرة للموازنة تُسهم في إستقرار مالية الدولة، وتُوفر معيارا محاسبيا موحدا، مع إرساء أمان اجتماعي موثوق.

– فرض ضرائب على القطاع غير الرسمي (إقتصاد “الكاش”)، عبر إلزام المكننة والإبلاغ الرقمي، وهو ما سيدعم حكمًا إيرادات الدولة.

– يجب تعزيز إستقلالية مصرف لبنان عن السياسة، مع هدف أساسي في هذه المرحلة، وهو إعادة مجد الليرة اللبنانية مع مصداقية محلية ودولية.

في المحصلة، إن الإستمرار في الدولرة بالنهج الحالي، من دون أن يكون هناك قرار رسمي ينتج عنه، إمّا إحتياطات بالعملة الصعبة تنتج عن جذب الإستثمارات، أو مجلس نقدي، أو سياسة نقدية صارمة، سيبقى إقتصاد “الكاش” مُتفلتا، وسيظل لبنان غارقا في عدم المساواة، وعاجزا عن جذب الاستثمارات الأجنبية اللازمة للتعافي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى