
لا شكّ في أن “البناؤون المجدّدون” وعبر أدواتهم من حكوماتٍ وشركاتٍ حاكمةٍ يعيدون ترتيب “المشهد الكوني” الذي يعتريه الكثيرُ من الغموض، وليس أيّ غموضٍ بل “غموضُ البناء”؛ المشهدُ الكونيّ الذي هو صناعةٌ معدّةٌ سابقًا حسب بنية “استراتيجية التكوين” التي رسمت خيوطها الأساسية أجيالٌ من “البناؤون المجدّدون”.
وقبل محاولة الولوج في “استراتيجية التكوين” و”البناؤون المجدّدون” قد يقول قائل: ومتى يكون الغموض بناءً؟ فنجيب أنّ البناءَ أصلًا هو مجموعة من الحسابات المركّبة والمعقّدة التي تنتج شكلًا يختبئُ فيه وخلفه الكثيرُ من الحقائق الحسابية والطرائق الرياضية التي لن يفهم تراكيبها المعقّدة الغامضةُ إلاّ من وضعها، ويلحق به من اختصّ في فهم التراكيب والطرائق المعقّدة فقط؛ فتصفها الكثرة بالغموضِ — أي غيرَ ظاهرةٍ للعيان. وهذا هو حالُ ما يمثل لنا أنّه حدثٌ سياسيّ أو عسكريّ أو اقتصاديّ يخفي خلفَه الكثيرَ من الحقائق التي تختلف كليًا عن طبيعةِ المشهد وآثارهِ المباشرةِ.
البناؤون المجدّدون هم ثلّةٌ من قادةِ الظّلّ والغموض العالميين، وهم اقتصاديّون بالدرجة الأولى، علمانيّون ملحدون؛ تحالفَ الحظّ ورؤيتُهم حتى استمالت مصلحتَهم علمَ البشريّة وجهلَها، مستثمرينَ في كلّ تضادّ وطباقٍ للفكر البشريّ. حتى إنّ تسييرَ الوجود بطبيعة قواهِ الدافعةِ الطبيعيةِ والغيرِ طبيعيةٍ أصبحت برهانَ اتجاهِ حركةِ البنيةِ الاستراتيجيّةِ التكوين، والتي يمتلكون — “البناؤون المجدّدون” — كلَّ ليْنٍ في خيوطِها وكلَّ صلابةٍ في مفاتيحها.
وجلاءُ الغموضِ في بنيةِ “استراتيجيةِ التكوين” يبدأ من ربطِ كلِّ حدثٍ متوافقٍ أو غيرِ متوافقٍ في سيرِه وسيرِ الطبيعةِ التركيبيةِ للحدث، كبيرًا كان أم صغيرًا، فرديًّا أو جمعيًّا، متوافقًا كان أو غيرَ متوافقٍ مع السرديّةِ العامةِ لبنويةِ التكوين. وللعلم، ما يُقصَدُ في بنيةِ التكوين لا يعني الوجودَ الكونيّ عمومًا بما هو مادةٌ، إنما يعني التكوينَ الاجتماعيَّ البشريَّ — الإنسانيَّ — كخطّ سيرٍ حياتيّ تستهدفُ “استراتيجيّةُ التكوين” السيطرةَ عليه كحركةٍ توجيهٍ لبنيةٍ بشريةٍ أساسيةٍ وعميقةٍ وإمكانيةِ قيادتها عن بُعد (ريبوت)، أي السيطرةَ على الوجودِ الكونيّ للبيئةِ البشريةِ وتسيرَها لمصلحةِ الاستراتيجيّةِ التكوينيّةِ البنيةِ.
وعلى نهجِ الجلاءِ والبحثِ والتدقيقِ وآلياتٍ أخرى كثيرةٍ يمتلكها العقلُ البشريّ، نسحبُ خيوطَ الوضوحِ على مسرحِ الكشفِ ونحيكها مع خيوطِ الوقائعِ الماثلةِ إلى حينٍ، ونتركُ خيطًا طويلاً لمستقبلِ الأمورِ لأنّ الزمنَ كفيلٌ وشرطٌ ضروريٌّ في تظهيرِ الصحيحِ من الخطأِ والخديعةِ من الحقيقةِ. وبهذا “المِبْضَع” نبدأ الولوجَ ذاك مبتدِئينَ بخيطِ الكشفِ عن نتائجِ سقوطِ الدولةِ في سورية ونظامِها، والتي لا تُحصرُ أو تتقوقعُ (النتائج) فيها فقط؛ وذلك لأنّ سورية ليست دولةً ثانويةً في بنيويةِ الوجودِ البشريّ، لا جغرافيًا ولا سياسيًا ولا حتى حضاريًا.
وحتى اللحظة، ورغم كثرةِ التكهناتِ وغموضِ التناقضاتِ وتسابقِ الأحداثِ، يمكنُنا أن نتلمّسَ إحدى النتائج وهي إعدادَ نعشِ النظامِ العالميّ الذي نشأ نتيجةَ ثورةٍ صناعيةٍ واحتاجَ لحربينِ عالميَّتينِ لتثبيتهِ وجني محاصيله. وإن تطرفنا قليلًا في الرأي قد نرى ذاك النظامَ يحيَا وضعيةَ “سكرةِ الموت” — وهي حالةٌ يصنعها اللاوعيُ في الفرد عبر اختلاطاتٍ عصبيّةٍ في وظائفِ الجسدِ وبالأخصّ الدماغُ؛ لترى تهيُّأتٍ تُصنَّفُ في لحظاتها غريبةً. إلاّ أنّه مع مرورِ الوقتِ ندركُ أنَّ تلك التهيؤاتِ لها أرضيّةً في سياقِ ما يتعرّضُ له الفردُ ضمن نظامِ الموتِ، فنُطلِقُ عليها سَكراتٍ أو سكرةً أو يقظةً ما قبلَ الموتِ.
إلاّ أنّ ما يدهشنا أنَّ مشرقَنا هذا وحتى اللحظة لا يَمتلكُ حتى فرصةَ يقظةٍ ما قبلَ الموتِ، وكأنّه يعاني من رهابِ اليقظةِ ويتحسّسُ من كلِّ وعيٍ أو تنبّهٍ عصبيٍّ.
مشرقنا الذي أخذ يتدحرج مصارعًا تناقضاتِه بعد أن دُفع إلى هوّةٍ فوق قاعٍ عميقٍ جدًّا ضمن تلك الاستراتيجيّة. فكانت نتائجُ سقوطِ الدولةِ في سورية سقوطًا لمحيطٍ إقليميٍّ كاملٍ في تهديدِ هيمنةِ “استراتيجيّةِ التكوين”. وها هي شعوبُ المنطقةِ تدفعُ للانزلاقِ في أتونِ الصراعاتِ القاتلةِ، وحكوماتُها تُساقُ إلى الاصطفافِ على مسالخِ الذبحِ الاقتصاديِّ بسكينِ البنكِ الدوليِّ الذي يلعب آخرَ أدواره في دقِّ المسمارِ الأخيرِ في نعشٍ يُعَدُّ لعالمنا.
مشرقنا إن لم تتظافر جهودُ شعوبه ويعملْ على شكلٍ من أشكالِ التوافقِ بين قواه، يتمخَّضُ عنه نفيرٌ عصبيٌّ ينتجُ يقظةً توقِظُ فينا مكامنَ الحذرِ، فالاستعدادُ ومحاولة النهوض، سيكونُ القبرَ فسيحًا لسقوطِنا أمواتًا غيرَ مأسوفٍ علينا. هكذا تُساقُ أمورُنا ونحن في غفلةٍ وكأنّنا لا حولَ لنا ولا قوّةَ رغم كلِّ ما نملكُ من مقوّماتِ الجغرافيا الحاكمة، الثرواتِ الهائلةِ، الأصلِ الحضاريِّ، وغيرها.
وقد يكون لزامًا علينا أوّلًا فهمُ الحكمةِ التي يعلنها (الحانوتي — متعهّدُ الدفنِ والذي هو نفسهُ البناؤون المجدّدون): متى صنع نعشكَ لا يعني أنّك ستموتَ إنما يعني أنّك لن تبقَى حيًّا. نعم، نعشنا يُصنَعُ، وهذا أمرٌ لا يجبُ أن يعني لنا أنّنا أمواتٌ؛ أمامَنا فرصةٌ ولو كانت يقظةً أو سكرةَ الموتِ. فالموتُ هو التوقّفُ عن المحاولةِ في كسبِ شرفِ الحياةِ.