اخبار محليةالرئيسيةخاص دايلي ليبانون

الزعامة الدرزية بين الماضي والحاضر: تراجع جنبلاط وأرسلان وصعود وهاب والهجري وطريف

بقلم د. هشام الأعور

لطالما ارتبط اسم دروز لبنان بثنائية سياسية تقليدية تمثلت في الزعامة الجنبلاطية والزعامة الأرسلانية. غير أن هذا الاختزال التاريخي لم يعد يعكس الصورة الكاملة للواقع الدرزي في لبنان، لا من حيث التمثيل السياسي ولا من حيث الامتداد الديني والاجتماعي الذي يتخطى حدود هذه الثنائية، في ظل تحولات داخلية عميقة وتغيرات إقليمية واسعة.

في العقود الماضية، شكّلت الزعامة الجنبلاطية، ممثلة بالحزب التقدمي الاشتراكي، رأس الحربة في الحياة السياسية للدروز، خاصة في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية. أما الزعامة الأرسلانية، برئاسة طلال أرسلان، فكانت تمثل ما يعتبره البعض الامتداد التقليدي لعائلة لها جذور عريقة في التاريخ السياسي للموحدين الدروز. غير أن هذا الثنائي، على الرغم من حضوره الوازن، لم يعد يحتكر القرار الدرزي، لا سيما في ضوء تنامي أصوات جديدة وشخصيات دينية واجتماعية بدأت تبرز في المشهد، مطالبة بدور أكثر توازناً وتمثيلاً للتنوع داخل الطائفة.

في السنوات الأخيرة، ومع سقوط نظام الأسد ووصول أحمد الشرع إلى الحكم في سوريا، تغيّرت معادلات كثيرة في المشهد المشرقي، وانعكست مباشرة على الطائفة الدرزية، خصوصاً في لبنان. تحوّلت السويداء من محافظة هامشية في حسابات النظام إلى جغرافية سياسية ووجدانية لكل من ينتمي إلى هذا الامتداد التاريخي. ومع تصاعد هجمات الفصائل المسلحة ووقوع اعتداءات متكررة على أهالي السويداء، بدأت تتكوّن حالة درزية جديدة، عنوانها الكرامة والصمود والحفاظ على الهوية، رافضة أي شكل من أشكال الاستتباع، سواء للنظام أو للفصائل، ومعيدة الاعتبار لدور الطائفة كصاحبة موقف، لا كأداة في يد أي جهة.

التحوّل الذي بدأ في السويداء لم يكن مجرد ردة فعل أمنية أو سياسية، بل عبّر عن وعي عميق لدى المجتمع الدرزي السوري، امتد صداه إلى لبنان، حيث بدأ العديد من أبناء الطائفة ينظرون بعين الإعجاب إلى هذا النموذج القائم على الرفض الشعبي والتمسك بالقرار الحر. وقد برز الشيخ حكمت الهجري كمرجعية دينية وطنية جامعة، جسّدت هذا التوجه بامتياز، من خلال مواقف واضحة تمسّك فيها بالكرامة والاستقلال، ورفض التدخلات الخارجية والداخلية التي تستهدف هوية الجبل وأمنه. هذا الصعود النوعي في رمزية السويداء والشيخ الهجري، ترك تأثيراً مباشراً في البيئة الدرزية اللبنانية، وساهم في تعميق الهوة بين القواعد الشعبية والمرجعيات السياسية التقليدية التي لم تعد تعبّر عن المزاج العام.

في السياق نفسه، يُسجَّل للشيخ موفق طريف، الزعامة الدينية العليا لدروز فلسطين، حضور متنامٍ تجاوز نطاقه المحلي. ففي ظل محاولات الاحتلال الإسرائيلي لأسرلة الدروز ودمجهم في منظومته السياسية والعسكرية، برز طريف كصوت متوازن يحافظ على هوية الطائفة ويصون خصوصيتها. ومع تصاعد الرفض الشعبي للتجنيد الإجباري وتزايد الوعي القومي في أوساط الدروز الشباب، بات لطريف موقع رمزي واسع يتخطى حدود الأراضي المحتلة، ويؤثر في الوعي الجمعي للدروز في لبنان وسوريا على السواء. إن نجاحه في الحفاظ على توازن دقيق بين الواقع السياسي المعقّد والهوية العربية الراسخة، جعله نموذجاً آخر للمرجعية غير التقليدية، المتحرّكة في فضاء وطني وقومي عابر للحدود.

في هذا السياق، برز موقف وئام وهاب كأحد التعبيرات السياسية عن هذا التحول، حيث اتخذ منذ البداية موقفاً متمايزاً عن موقفي جنبلاط وأرسلان، من خلال وقوفه العلني إلى جانب أهله في السويداء، وشد أزرهم في وجه الهجمات الوحشية التي شنّتها الجماعات التكفيرية. وقد حرص وهاب في خطاباته ومواقفه على تسليط الضوء على ما تعرّض له أهل الجبل من اعتداءات طالت الأطفال والنساء والشيوخ، مؤكداً على أن ما يجري ليس مجرد صراع داخلي، بل محاولة ممنهجة لضرب الكرامة والهوية، واستهداف مباشر للطائفة التي لطالما تمسكت بالعيش المشترك ورفض التطرف. هذا الموقف الصلب، وإن لم يترجم إلى نفوذ تنظيمي واسع، أكسبه احتراماً في أوساط درزية واسعة، ورصيده السياسي ارتفع في بيئة تبحث عن من يقف معها في لحظات الوجع والتهديد الوجودي، لا من يلتزم الحياد أو يغرق في الحسابات التقليدية.

في المقابل، برز اسم الشيخ أبو يوسف أمين الصايغ كإحدى المرجعيات الدينية المناهضة للمواقف المتخاذلة أو الصامتة تجاه جرائم الجماعات التكفيرية بحق بني معروف وبحق الطائفة الدرزية عموماً. حيث رفض الصايغ بشدة الدعوات التي تمس حياة الدروز أو تدعو إلى ذبحهم، مؤكدًا على ضرورة الوقوف بحزم أمام هذه الجرائم، وعدم التهاون أو السكوت على هول المعاناة التي تعرض لها الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ. موقفه هذا جعله رمزاً للمقاومة الدينية والأخلاقية في وجه التطرف، ورافداً أساسياً في معركة استعادة الكرامة الدرزية.

الواقع اليوم يشير إلى أن المشهد الدرزي، خصوصاً في لبنان، بات أوسع من أن يُختصر بثنائية جنبلاط–أرسلان. فهناك شبكة مرجعيات دينية وسياسية وشعبية تتوزع بين لبنان وسوريا وفلسطين، تنتج خطاباً متنوعاً لكنه يجتمع على رفض الاستلحاق، والتطلع إلى موقع وطني مشرقي مستقل، يعيد للطائفة حضورها المؤثر، لا من خلال الزعامات وحدها، بل من خلال المزاج الشعبي الذي يرفض أن يبقى على هامش الأحداث أو تابعاً لقوى أكبر منه. إن الأصوات التي ترتفع من السويداء، والمواقف التي تصدر عن مرجعيات فلسطين، والتموضع الجديد لبعض المرجعيات الدينية والقوى السياسية في لبنان، كلها تعكس لحظة درزية جديدة، فيها الكثير من التحدي، ولكن أيضاً الكثير من الوعي والنضج التاريخي.

بهذا المعنى، فإن طائفة الموحدين الدروز ليست مجرد طائفة عابرة في مشهد إقليمي مضطرب، بل هي طرف حاضر بخصوصيته، بتاريخه، وبإرادته المتجددة. وهي تخرج اليوم من أسر الثنائية الدرزية التقليدية، لتصبح جزءاً من معادلة إقليمية تتشكل بين الجبل والسهل، بين الجنوب والشام، بين ما كان، وما يجب أن يكون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى