الرئيسيةخاص دايلي ليبانونمجتمع ومنوعات

«لنا موسيقانا ولهم موسيأتهم»

بقلم: طارق سيف الدين

قُدِّرَ لنا أن نحيا في بلادٍ اعتادت أن ترقصَ على وَقْعِ موسيقى عالمية…فإنْ تَناغَمَتْ نوتةُ العازفين الكونيين هدأ رقصُنا، وانسابَ تماهِيًا مع الهَدْأة…
وإنِ افترض “القانون” أنْ يَسْتَحوِذَ بأوتاره على الغيثارة وكلِّ آلةٍ وترية، فارضًا هيمنةَ المايسترو الوَتَريِّ المزاج، تَنتفِضُ الدَّرَمز والطَّبلة، ومعها كلُّ آلاتِ الإيقاعِ والنَّفخ، لِتَعْصِفَ رفضًا يُعلي نَفيرَ الطبول مُعلِنًا بدءَ صراعِ الأدواتِ واشتباكِ الراقصين…
فتلتهبُ بلادُنا قَلَقًا، ونصطفُّ قُطُعانًا بحماسةٍ هنا وبرودةٍ هناك، وكأنَّنا السِّيمفونيةُ والمسرحُ والعازفونَ والجمهورُ ودارُ الأوبرا معًا.
فتَحْبَلُ أماسينا بمخاضِ التوتُّراتِ على امتدادِ الوقت…
نتآوَهُ سُكارى بطَرَبِ آهَاتِنا آلامًا وأوجاعًا لا تهدأ، حتى حين يأخذُ المايسترو وقتًا للاستراحة، تكونُ بلادُنا أنهكَها الرقصُ وأعياها التَّعبُ وسَلَبَ الإرهاقُ جسدَها…

ورغم أنَّ الموسيقى وَمْضٌ لُغويٌّ كونيٌّ مُركَّبٌ من كلِّ جمالٍ وإبداعٍ وخيالٍ للفكرِ الإنساني، وفيها كلُّ شعورٍ، وكلُّ تعبيرٍ، وكلُّ جُنُوحٍ للنفسِ البشريةِ إلى العاطفةِ واللُّطف…
إلَّا أنَّها وقعت فريسةً كباقي الظواهرِ البشريةِ من دينٍ وفلسفةٍ، وكلِّ ما أنتجه الفكرُ البشريُّ من علومٍ ومعارف…
وقعوا جميعًا فريسةً لِسَطوةِ القوى الشَّرِهةِ المتمثِّلةِ بالسُّلطةِ الجانحةِ إلى الأحاديةِ المتعطِّشةِ للاستبداد، في عالمٍ نواتُه الأولى التفاعلُ، وطبيعتُه التنوّعُ على قاعدةِ التناغمِ (التكامل).

ليُصبحَ عالمًا يُقادُ إلى الحِدِّيَّةِ وتطرُّفِ الأحادية، فيبدأ بالانحرافِ عن حقيقتِه، آخِذًا بالانكماشِ والتقلّصِ في أنسَنَةِ الوجودِ البشريِّ أولًا، والطبيعةِ الوجوديةِ للكونِ الماثلِ لحدودِ معرفتِنا ثانيًا…
فالشذوذُ ـ بكلِّ ما يعني ـ وبكافَّةِ أوجهِه، الشذوذُ عن المنطقِ الطبيعيِّ الذي يُفَسِّرُ لنا كلَّ هذا التخبُّطِ والاختلاطِ في الرؤية، مقصودٌ منه أنْ نَعْبُرَ مَسالِكَ التسطيحِ الثقافي، مُتوهِّمينَ مخدوعينَ بتسويقِ مفاهيمِ الأحاديةِ المادية، مُنْساقينَ إلى طبيعةٍ بهيميةِ الطابعِ، مناقضةٍ لإنسانيتِنا، بعنوانِ “نظامٍ عالميٍّ جديد”.

هيَ ذي معزوفةُ الصراعِ الأحاديةُ الشاذَّة، تُنتِجُ توزيعَ الفقرِ على العامةِ من الشعوب، بعناوينِ الحريةِ والعدالةِ والمساواة، فتتساوى الشعوبُ بالفقرِ والظلم، بينما تَنعمُ السلطةُ بنَهَمِ المادةِ ومكاسبِ الحظيرةِ الكونية.

هكذا دوامُ حالِنا نحن أبناءَ الهلالِ الخصيب، سُلالةَ الحضارات، وأحفادَ الجبابرة، ووارثي أعظمِ الثروات…
حالٌ مُنصاعٌ مأخوذٌ في غيبوبةِ الوَهْنِ منذ أكثرَ من ألفِ عام، ورغم أنَّ دوامَ الحالِ من المُحال، وأنَّ لكلِّ قاعدةٍ شواذَّ، إلَّا أنَّ غالبيَّتَنا اعتادت التسطيحَ، وبعنادٍ بهيميٍّ تَتمنَّعُ حتى أنْ نكونَ الشذوذَ الإيجابيَّ عن السياقِ المفتعلِ لنا ـ وغيرِ الإيجابيِّ.

ولم تزلْ (غالبيَّتُنا) تَجنحُ إلى الشذوذِ السلبيِّ، مُعانِدةً كلَّ خاصيةٍ عقليةٍ فينا، وكلَّ سياقٍ منطقيٍّ، فتكونُ الحريةُ حريةَ الفوضى في مفاهيمِ الرجعةِ والتخلّف، ويُصبحُ السلامُ هو تسليمَك أرضَك لمُحتلٍّ، والعدالةُ والعيشُ المشتركُ تَنازُلَك عن سلاحِك لقاتلك!

إنها معزوفةٌ صاخبةُ الجنون، سيئةُ المقصد، ومصيرُ الراقصينَ على ضجيجِها السقوطُ في الهاوية.

لسنا غِربانًا نُجيدُ السَّوداويةَ فنتمايلُ مع غُربتنا نِياحًا لإمكانيةِ النَّجاةِ ممّا يُخطُّ لنا من فناء، إنَّما نَرسمُ كلَّ تلك الصورةِ عازمينَ عزفَ الوضوحِ بريشةٍ من أملٍ على “وعسى” أنْ يُؤثِّرَ المنطقُ السليمُ إنْ عزفناه لحنًا يُحاكي عقلَنا ونفسَنا، فنرقصُ إدراكًا، ونتمايلُ وعيًا، أنَّ لنا موسيقانا التي نستمدُّها من مواهبِنا، والتي تُعبِّرُ عن كلِّ حقٍّ وخيرٍ وجمالٍ وفنٍّ يُمثِّلُنا في هذا العالم، وأنَّ ما يعزفُه المتصارعونَ العالميونَ لنا هو موسيأتُهم!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى