اخبار عربية ودولية

د. هشام الأعور – مفهوم الحرب الاستباقية في إطار الضربات الإسرائيلية للمشروع النووي الايراني

تُعد الحرب الاستباقية أحد أكثر المفاهيم إثارةً للجدل في الفكر السياسي والاستراتيجي المعاصر، حيث تمثل خطوة عسكرية تهدف إلى ضرب العدو قبل أن يُبادر هو بالهجوم، استنادًا إلى تقدير أن تهديده بات وشيكًا ولا يمكن تفاديه إلا باستخدام القوة. هذا المفهوم يرتبط بشكل مباشر بالقضايا الوجودية للدول، وخصوصًا في بيئات إقليمية معقدة تشهد اختلالات استراتيجية وصراعات أيديولوجية.

من أبرز النماذج التي تنطبق عليها الحرب الاستباقية في واقع العلاقات الدولية اليوم، التهديد الذي تراه إسرائيل في المشروع النووي الإيراني، والذي تعتبره تحديًا وجوديًا لا يمكن التهاون معه، ولا الانتظار حتى يتبلور على الأرض بشكل فعلي.

لقد تبنت إسرائيل منذ نشأتها مبدأ الضربات الوقائية والاستباقية كجزء لا يتجزأ من عقيدتها الأمنية، استنادًا إلى طبيعة التهديدات التي تواجهها من محيطها الجغرافي والسياسي. فقد كانت الضربة الجوية التي شنتها في يونيو 1967 ضد مصر وسوريا والأردن مثالًا واضحًا على ذلك، كما شكّلت عملية تدمير المفاعل النووي العراقي في عام 1981 دليلاً على أن إسرائيل لا تنتظر حتى يتم استكمال مشاريع التسلح الخطيرة لدى خصومها، بل تبادر بإجهاضها في مهدها، مهما كانت التداعيات.

وتكررت هذه الاستراتيجية مرة أخرى عام 2007 عندما استهدفت منشأة نووية سورية قيد التطوير. كل هذه العمليات تعكس توجهًا واضحًا مفاده أن الانتظار في نظر إسرائيل هو مجازفة قد تكون نتائجها كارثية.

في السياق الإيراني، تعتقد إسرائيل أن امتلاك طهران للتقنية النووية، حتى وإن كانت لأغراض سلمية كما تزعم، يحمل في طياته إمكانيات عسكرية مستقبلية تهدد أمنها بشكل مباشر. ومرد هذا الاعتقاد لا ينبع فقط من القدرات التكنولوجية الإيرانية، بل من التصريحات المتكررة الصادرة عن قيادات إيرانية بشأن زوال إسرائيل، إلى جانب الدعم المستمر الذي تقدمه إيران لجماعات تعتبرها إسرائيل معادية، مثل حزب الله في لبنان وحماس في غزة.

وفي ظل التقدم الذي تحققه إيران في تخصيب اليورانيوم، وما تعتبره إسرائيل تراجعًا دوليًا في مواجهة الطموحات النووية الإيرانية، ازداد الحديث داخل الدوائر السياسية والعسكرية الإسرائيلية حول ضرورة اتخاذ إجراء استباقي لوقف البرنامج النووي قبل فوات الأوان.

لكن هذا التوجه محفوف بتحديات كبيرة على المستويين القانوني والسياسي. فعلى الرغم من أن بعض الدول تتفهم دوافع إسرائيل الأمنية، إلا أن القانون الدولي لا يجيز استخدام القوة إلا في حالة الدفاع عن النفس من اعتداء مسلح وقع فعليًا، أو بموجب تفويض من مجلس الأمن. وبالتالي، فإن شن ضربة عسكرية استباقية ضد إيران من دون موافقة دولية قد يُعتبر خرقًا صريحًا للقانون الدولي ويضع إسرائيل في موقع المساءلة الدولية. علاوة على ذلك، فإن أي عملية من هذا النوع قد تؤدي إلى إشعال المنطقة بأكملها، نظرًا لأن إيران تمتلك أدوات ردّ متعددة من خلال أذرعها المنتشرة في لبنان وسوريا والعراق واليمن، والتي قد تستهدف مصالح إسرائيلية أو أمريكية في المنطقة.

كما أن الضربة العسكرية، حتى لو نُفذت بنجاح، قد لا تحقق هدفها الاستراتيجي الكامل، إذ إن المنشآت النووية الإيرانية موزعة على نطاق جغرافي واسع، وبعضها موجود في مناطق تحت الأرض يصعب استهدافها بدقة. كما أن إيران قد تعيد بناء برنامجها بسرعة، ما يجعل الضربة مجرد تأجيل مؤقت لا أكثر. وفي ظل هذه الحسابات، يظهر تساؤل جوهري حول ما إذا كانت الضربة تستحق كلفتها العسكرية والسياسية والاقتصادية.

لكن على الرغم من هذه المحاذير، يبدو أن إسرائيل ماضية في بناء سيناريوات مختلفة لضرب المشروع النووي الإيراني في حال وصلت إلى قناعة بأن التهديد بات وشيكًا. ولعل أكثر ما يثير القلق أن إسرائيل قد اقدمت على هذه الضربة بشكل منفرد، بمعزل عن موقف الولايات المتحدة أو التنسيق مع القوى الكبرى، وهو ما ينذر باندلاع مواجهة واسعة قد تخرج عن السيطرة وتتحول إلى نزاع إقليمي متعدد الجبهات.

إن الخطر الإسرائيلي هنا لا يكمن فقط في تنفيذ ضربة عسكرية، بل في التحول نحو عقلية استراتيجية تتعامل مع الأمن الإقليمي من منظور أحادي، ترى فيه القوة وحدها الحل، وتُقصي الوسائل الدبلوماسية أو السياسية. وبعد تنفيذ الضربة الاستباقية دون توافق دولي، فقد يشكل ذلك سابقة خطيرة تُضعف من منظومة القانون الدولي وتفتح الباب أمام صراعات أخرى تُبرر بالقوة الوقائية، مما يقود إلى فوضى استراتيجية في الشرق الأوسط تكون إسرائيل أحد محفزيها الأساسيين، لكنها أيضًا إحدى ضحاياها المحتملين على المدى الطويل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى