ولادة دولة أمنية مُشوَّهة: سوريا مسرحاً لجرائم بلا حدود
عامر علي - الاخبار

يفتح مسلسل الجرائم المستمر في سوريا، سواء تلك التي تقع بدوافع طائفية أو انتقامية، أو لأسباب أخرى جرمية، الباب أمام احتمالات عديدة، تصبّ جميعها في بوتقة مؤسسات الدولة الناشئة، ما يضع الإدارة الجديدة أمام أزمات مصيرية. على أنه لا يمكن اعتبار جرائم القتل التي طاولت عدداً من السوريين العائدين من ألمانيا إلى سوريا، والذين فقدوا حياتهم أثناء أو بعد تعرّضهم لملاحقة أمنية من قبل فصائل تابعة أو مرتبطة بالإدارة، بما فيها جهاز «الأمن العام»، عارضاً طارئاً، إنّما هو جزء من صورة أكبر لشلال الدم المستمر في البلاد، منذ انهيار مؤسسات الدولة مع سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، نهاية العام الماضي.
ومع وصولها إلى السلطة، أعلنت الإدارة الجديدة بقيادة الرئيس في المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، جملة من التعهّدات، أبرزها التحوّل من «عقلية الثورة إلى عقلية الدولة»، والعمل على بناء المؤسسات التي انهارت، إضافة إلى إنهاء الحالة الفصائلية من طريق بناء منظومة عسكرية واضحة المعالم عبر وزارة الدفاع، وأخرى أمنية عبر وزارة الداخلية، بالإضافة إلى بناء المؤسسة القضائية ومنحها الاستقلالية اللازمة لعملها.
وإذ بدت هذه التعهدات أرضية قوية لبناء دولة مؤسساتية، غير أن ما جرى ويجري على أرض الواقع يضعها في مسار «الخطاب الإعلامي» الموجّه إلى الغرب حصراً، إذ تتواصل في الواقع حالة الفلتان الأمني، وتستمر الظاهرة الفصائلية، بالإضافة إلى الصعود غير المسبوق للقوى المتشدّدة التي باتت تملك سلطة كبيرة في سوريا، سمحت لها بتوسيع دائرة الجرائم القائمة على خلفية طائفية، إلى جانب عمليات الاستيلاء على الأملاك، وخطف النساء، وغيرها من الجرائم التي باتت واضحة المعالم ولم تعُد محاولة «ترقيعها» تنفع عبر لجنة تحقيق هنا، أو نفي هناك.
وبعيداً عن التجاذبات السياسية، أو المجازر الواضحة (سواء في الساحل السوري والمنطقة الوسطى حيث استهدفت العلويين، أو في السويداء حيث طاولت الدروز)، وما أفرزته من تصعيد ميداني وتدخّل إقليمي ودولي، تكشف الأحداث الدموية المستمرة في مناطق من المُفترض أنها بعيدة عن هذا الجذب عن أزمة عميقة في تركيبة الإدارة الحالية.
وتؤسّس هذه الأزمة، بغضّ النظر عن النوايا، لبناء شكل مُشوّه من أشكال الدولة الأمنية، يقوم بشكل أساسي على إحساس القوى المسيطرة على الأرض بالقدرة على فعل أي شي، من دون أيّ محاسبة، ما يمكن أن يفسّر عشرات جرائم القتل التي وقعت خلال الشهرين الأخيرين، والتي راح ضحيتها مدنيون على حواجز التفتيش، أو حتى في الأفرع الأمنية. وفي السياق، وثّق «المرصد السوري لحقوق الإنسان» الذي ينشط من لندن، في شهر تموز الماضي، مقتل 92 شخصاً، فقدوا حياتهم بسبب «دوافع انتقامية أو طائفية»، بينهم 86 رجلاً، و4 سيدات، وطفلان، توزّعوا على محافظات دمشق، ريف دمشق، حمص، حماة، حلب، اللاذقية، طرطوس، إدلب، السويداء ودير الزور.
واللافت في عمليات القتل تلك، والتي يقع معظمها في مناطق ريفية بعيدة عن التركيز الإعلامي، التجاهل المُطلق لها من قبل السلطات. فمثلاً، يتم رمي جثث القتلى على أبواب المستشفيات أو في مناطق نائية، ويُسجَّل مرتكبو قتل أصحابها مجهولي الهوية، في وقت تعمل فيه السلطات على رسم صورة إعلامية مغايرة عبر التركيز على بعض الجرائم التي تقع في مراكز المدن الكبيرة، في تتبّع واضح لـ«الترند» ومحاولة خلق «ترند» معاكس، تحاول عن طريقه تصدير عمل مؤسساتي للإدارة الجديدة.
التدفّق المستمر لحوادث القتل من دون أي رادع قانوني، يجعل مسألة ملاحقتها إعلامياً أمراً مرهقاً
وبالعودة إلى معطيات «المرصد السوري»، فهو وثّق في إحصائيته الشهرية، «ما لا يقل عن 48 حالة قتل بدوافع طائفية مباشرة، استهدفت خصوصاً أبناء الطائفة العلوية والطائفة الشيعية، بالإضافة إلى شخصيات دينية وعناصر أمنيين وعسكريين سابقين محسوبين على النظام البائد». وبحسبه، فإن بعض هذه الحوادث ترافقت «مع شعارات طائفية أو تمّ تنفيذها بطرق تحمل بصمات واضحة لعمليات إعدام ميداني وانتقام ممنهج»، كما اتّخذت «أشكالاً مختلفة، راوحت بين الاغتيال المباشر برصاص مجهولين، الخطف ثم القتل، الإعدام داخل المنازل، التصفية أمام ذوي الضحايا، واستهداف أسر كاملة، بمن فيهم نساء وأطفال».
وتكشف الإحصائية المُشار إليها، والتي تقتصر على شهر واحد فقط، عن أوضاع مأساوية تعيشها الأقليات في سوريا على وجه التحديد، علماً أنها تأتي اعتماداً على جهود مصدر واحد فقط (المرصد)، ما يعني أن الأرقام التي يقدّمها الأخير قد تكون أقل مما يجري على أرض الواقع بكثير، بسبب عدم امتلاكه حضوراً كافياً على الأرض. كما تكشف الأرقام عن وجود ديناميكية واضحة لعمليات القتل القائمة على أساس طائفي، ما يعني أن السلطات الحالية إمّا أنها موافقة على ما يجري، أو أنها غير قادرة على ضبط الأوضاع. وفي كلتا الحالتين، تضع هذه السلطات نفسها في موضع الاتهام، باعتبارها شريكة في ما يحصل.
على أن التدفّق المستمر لحوادث القتل في سوريا، وللانتهاكات التي يقوم بتنفيذها أشخاص متنفّذون من دون أي رادع قانوني واضح، يجعل مسألة ملاحقتها إعلامياً أمراً مرهقاً؛ وبالتالي، فهو يحيلها عنصراً «طبيعياً» و«معتاداً» مع مرور الوقت، الأمر الذي يساهم بدوره في إبعادها عن صدارة الأخبار المتداولة، أو التي تحظى باهتمام شعبي كبير. كما يكشف العنف المتواصل، والذي يجري تبرير بعضه باعتباره «انتقامياً» وموجّهاً ضد «فلول النظام السابق»، أيضاً، عن عجز لدى السلطات الحالية عن تنفيذ تعهّداتها بتحقيق «عدالة انتقالية»، يتم خلالها تقديم المتورّطين في الجرائم إلى القضاء لتتمّ محاكمتهم.
أمّا محاولات التعمية على ما يحصل على الأرض، عبر نشر بعض الصور والبيانات الرسمية حول القبض على مرتكبي جرائم، فتفتح الباب أمام تساؤلات عديدة حول سبب التمييز في عمليات نشر صور المتورّطين؛ إذ يتم الكشف عن وجوه البعض ممّن اتُّهموا بأنهم «فلول»، بينما يُغطّى على وجوه مرتكبي جرائم أخرى. كذلك، تثار تساؤلات حول مصير المقبوض عليهم، والآلية التي تتم محاكمتهم عبرها، خصوصاً أن التصريحات الحكومية تنتهي عند نشر خبر القبض عليهم، في وقت ما زالت فيه المؤسسة القضائية تعيش حالة فوضى، حالها كحال معظم مؤسسات الدولة التي تمّ وضع أوصياء عليها تحت مسمّى «أمراء» أو «شيوخ»، يملكون سلطات مطلقة في مناطق سيطرتهم ونفوذهم.
وأمام هذه الأوضاع، بدأ التيار الغاضب من الأوضاع الحالية في الشارع السوري يشهد نمواً متزايداً، الأمر الذي يمكن التماسه بسهولة بعد كل جريمة تحظى باهتمام الناس، وتخرج السلطات لتبريرها بسيناريوات غريبة، مثلما حصل أخيراً لدى اتهام المغترب يوسف اللباد، الذي فقد حياته داخل مقر أمني بعد اعتقاله من الجامع الأموي، وظهرت على جثته علامات التعذيب، بأنه قام بإيذاء نفسه بنفسه، أو حادثة مقتل الناشط العائد أيضاً من ألمانيا كندي العداي، الذي وُجد مشنوقاً داخل منزله وعليه آثار تعذيب، علماً أنه تعرّض للاعتقال قبل مقتله. وفيما تداول ناشطون منشورات للأخير على موقع «فيسبوك» ينتقد فيها السلطات الحالية وسلوكها، يكرّس مقتله، ومقتل آخرين بالطريقة نفسها، نمطاً بات واضحاً في عمليات إسكات الأصوات المنتقدة، أيّاً كانت خلفيتها.