
لم يكن ينقص “دويلة المهربين” في وادي خالد، إلا ضرب إسرائيل للمعابر الشرعية شمالاً: العريضة والعبودية ومعبر جسر قمار، لتزدهر تجارتهم اليوم بشكل غير مسبوق. بالأرقام، ووفق مصدر رفيع في مرفأ طرابلس، انخفضت إيرادات المرفأ 25 في المئة. وعلى قاعدة “مصائب قوم عند قوم فوائد”، ازدهر التهريب عبر المعابر غير الشرعية، بشكل غير مسبوق: عشرات السيارات والشاحنات والدراجات النارية، تدخل سوريا يومياً “على عينك يا دولة”، مهربة، إضافة للبشر، الإسمنت والخردة وغيرها. لكن للمحروقات من غاز إلى مازوت وبنزين “قصة ثانية”، إذ يبرر بعض أهالي وادي خالد تلك التجارة بقولهم: سكتّم عن تهريب أهالي البقاع للمحروقات طيلة فترة الدعم عن المحروقات، فهل “ضاقت عينكم” بأن يستفيد أهالي وادي خالد ويفيدوا الدولة في آن عند رفع الدعم؟ متمنين لو أن الدولة اللبنانية “تنظم هذه التجارة بشكل رسمي”.
نظرية تبرير اقتصاد التهريب، لها جذور في منطقة شمالية لا ترى الدولة في شبابها إلا خزاناً للجيش، ولا يرى المهربون الكبار فيها، الناس، إلا “شوفيرية تهريب”، ولا يرى نوابها الداعمون و”المغطون” لاقتصاد التهريب فيها (كي لا نقول المشاركين)، ابن وادي خالد إلا صوتاً انتخابياً بمئة دولار. والمحصلة، حوادث مأسوية يدفع ثمنها أهالي المنطقة، نتيجة اقتصاد التهريب، أكثر إدماء للقلب، مجزرة التليل عبر انفجار صهريج بنزين وموت 30 ضحية. أما جديد مآسي اقتصاد التهريب، فمقتل ابن وادي خالد علي عادل العلي بعد مناوشات مع عناصر في هيئة تحرير الشام، وفتح تحقيق بالأمر من الجانب السوري.
“نحنا أسياد الحدود”، أغنية اشتهر بها المهربون السوريون المسيطرون على المعابر الحدودية من جهة لبنان. ومع مقتل السوري شجاع العلي، (المغطى سابقاً من ماهر الأسد)، طويت صفحة المهربين السوريين في لبنان. فماذا عن المهربين اللبنانيين، ومسار تهريب البضاعة من لبنان لسوريا والعكس؟ وماذا تقول مصادر الجيش عن تدابيرها الجديدة لضبط التهريب غير الشرعي؟ وهل حان وقت تصدير لبنان المحروقات لسوريا عبر الشرعية؟
مخاوف اللبنانيين… ومخاوف “الهيئة”
منذ أيام، وقبل إفطار رمضان بساعة، قتل الشاب علي عادل العلي من بلدة المجدل في وادي خالد عند الحدود اللبنانية السورية. سرعان ما انتشرت رواية عن محاولته فتح معبر غير شرعي عبر جرافته، وردع عناصر هيئة تحرير الشام له وصولاً لإطلاقها النار عليه.
رئيس بلدية العماير، ورئيس اتحاد بلديات وادي خالد سابقاً، أحمد الشيخ، يوضح عن تفاصيل الحادثة أنه “تبين لاحقاً بأن القصة لم تكن كما روّج لها في البداية”، بل إن “عناصر الهيئة دخلوا لبنان بمسافة كيلومتر بسيارتهم، وقاموا بإدارة محرك جرافة العلي عند الحدود، في محاولة لإدخالها للأراضي السورية، عندها تدخّل العلي مع أهله بإطلاقه طلقين ناريين تحذيريين في الهواء، ليرديه عناصر الهيئة قتيلاً بإصابة مباشرة”.
لم يسكت أهالي وادي خالد عن الحادثة. في السياق يقول الشيخ: “راجعنا محافظ حمص عبد الرحمن الأعمى، وأفادنا بأن عناصر الدورية التي قتلت ابننا في وادي خالد، جميعهم موقوفون، ووعدنا بأنّ ينال كل مجرم جزاءه”.
بعيداً عن هذه الارتكابات من قبل عناصر في الهيئة، توضح مصادر أمنية لبنانية لـ “نداء الوطن”، “أنّ هناك هواجس عامة من قبل القرار المركزي لهيئة تحرير الشام، تكمن بالسيطرة على التهريب الذي يستفيد منه الطرف السوري، بمعنى السماح به كون الداخل السوري مستفيداً منه، شرط “فلترته”، أي ضمان عدم دخول مواد غير مرغوبة للداخل السوري، في طليعتها الكبتاغون”.
أما هواجس أهالي وادي خالد، فأبرزها الحرمان جراء سياسة الدولة المركزية وتهميش الأطراف “لا مستشفى، لا طريق لا جامعة، بشو بدكن يشتغلوا أهالي وادي خالد؟”، يقول لنا رئيس بلدية العماير.
هاجس آخر، لا يغفله أهالي البلدة، وهو التمييز المناطقي والسياسي على قاعدة أنه ما يحق لـ “حزب الله” لا يحق للآخرين، حتى في الاقتصاد غير الشرعي. يسأل الشيخ: “14 عاماً والمعابر غير الشرعية مفتوحة في بلدة القصر في الهرمل والبقاع وفي عز تهريب المواد المدعومة من لبنان”. مضيفا: “ليش اليوم شقفة باطون وصهريج مازوت- مش مدعوم- قامت الدنيا عليهن وما قعدت؟”.
انخفاض إيرادات مرفأ طرابلس… لصالح التهريب
بالأرقام، انخفضت إيرادات مرفأ طرابلس 25 في المئة، وفق مصدر رفيع في المرفأ، نتيجة ضرب المعابر الشرعية شمالاً بين لبنان وسوريا، وهو رقم كبير جداً، ارتدّ سلباً على التجار، الذين يضطرون لنقل بضائعهم من سوريا عبر البقاع وصولاً لطرابلس.
هذا ويحذّر المصدر من مغبة استمرار انقطاع “الشريان التجاري الحيوي مع سوريا شمالاً سيما عند معابر العريضة والعبودية”، التي ضربتها إسرائيل في عدوانها الأخير على لبنان.
ضرب هذه المعابر، كان السبب الرئيسي لازدهار التهريب في وادي خالد بشكل فاضح، لتصبح مشاهد الشاحنات والسيارات التي تعبر سوريا من لبنان، أقرب للاقتصاد الشرعي بكثافتها منها إلى الاقتصاد غير الشرعي!
وفقاً لأهالي المنطقة المطلعين على عمليات التهريب، فإن أكثر من 400 بيك آب وسيارة للعائلات تدخل يومياً من لبنان إلى سوريا، علماً أن غالبية هذه العائلات تعود إلى لبنان بعد أيام.
أما أبرز المواد المهربة: فهي المحروقات على أنواعها من جهة لبنان إلى سوريا عبر التصدير: غاز ومازوت وبنزين، كذلك مواد البناء: الإسمنت والباطون، أما الحديد فهو أكثر المواد استيراداً من سوريا للبنان (مستخرج من المباني حيث الدمار في الداخل السوري).
مصادر الجيش: منعنا الخردة
كان الجيش اللبناني قد عمل على مصادرة شاحنتين محملتين بالخردة عند الحدود اللبنانية- السورية في منطقة وادي خالد العكارية منذ أيام.
وآخر حاجز للجيش في عكار، هو حاجز شدرا، الذي تحصل عنده عمليات تفتيش وتدقيق مكثفة. لكن في وادي خالد 23 بلدة بعد الحاجز، وتداخل التضاريس اللبنانية-السورية، يجعل هذا الحاجز عاجزاً عن ضبط عمليات التهريب.
في السياق، تقول مصادر الجيش الذي فعّل في الأيام الأخيرة إجراءاته، أن عدد مراكز الجيش في المنطقة 12، إضافة إلى عدة أبراج مراقبة.
وتوضح المصادر أنه “تمّ تكثيف الدوريات والنقاط مؤخراً، ويتم التركيز حالياً على بلدات: قرحة، الهيشة، المجدل وخصوصاً معبر الواويات والطرقات المؤدية له، كالبقيعة وخط البترول ومحيط الجسر الغربي ومعبر الحج عيسى، حيث تم تفعيل الدوريات بشكل شبه متواصل في المناطق المذكورة.
هذا وتم منع تهريب الخردة نهائياً في ما خص السيارات، أما باقي الآليات فيتم التدقيق بحمولتها وقانونيتها ويتم تسليم كل ما هو مخالف للشرطة العسكرية.
أما في ما خص التنسيق مع السوريين، تلافياً لأحداث مماثلة لما حصل في بلدة القصر، فتوضح المصادر أن التنسيق يحصل عبر مخابرات الجيش ومكتب التعاون والتنسيق.
نواب لوادي خالد: بزيادة عليكِ التهريب!
مع مقتل المهرب ورئيس أكبر عصابات الخطف للبشر، من جهة سوريا، في تجارة تهريب السوريين عبر سوريا ولبنان، شجاع العلي، الذي كان يحظى بغطاء من رئيس الفرقة السورية الرابعة ماهر الاسد، ومع سقوط نظام بشار الأسد، انتهى عهد المهربين السوريين في وادي خالد، أمثال أحمد العلي الملقب بـ “الأبرش”، أبو ملك، أبو غاندي، والحج متليك الملقب “بالجدو”، حيث بات بعضهم يعمل من الجهة السورية، وبعضهم يسعى للانضمام لهيئة تحرير الشام، فعاد “العز” للمهربين اللبنانيين.
ودرجت العادة في وادي خالد، أن يكون “صاحب المعبر” هو المُهرّب، أو مستفيداً أقله من عمليات التهريب لقاء خوة، عند المعبر الذي يتقاسمه مهربون عدة. وصاحب المعبر هنا، هو الشخص الذي تعود ملكية الأرض، حيث يحصل التهريب، له، أو تكون في جوار أرضه.
وتنشط حركة التهريب عند 4 معابر أساسية، هي خط البترول-معبر أبو جحاش ببلدة البترول، للمهرب سامر أبو جحاش، ومعبر روزا عند سكة الحديد، ومعبر الشبيّة، في الهيشة، ومعبر وادي الواويات في بلدة المجدل، الذي تسيطر عليه عائلة “المنافي” من الجهة السورية.
أما معبر حج عيسى، فصاحبه محمد عيسى العلي، ومعبر المتحدة عند خط البترول، صاحبه مهند أحمد المصطفى المعروف بـ “مهند الوحش”، وهناك أيضاً معبر “شهيرة” لامرأة تدعى شهيرة ويسيطر أولادها على المعبر.
أما معبر المقيبلة، في بلدة المقيبلة، فسيطر عليه خالد محمد الحسن الملقب بخالد رشاد، ولديه كميونات وجرافات يستخدمها لتحسين طرقات المعابر، في حين أنّ معبر البقيعة، في بلدة البقيعة، فيسيطر عليه خالد عبيدان، ومعبر الرجو، عند بلدة خط البترول، فيعود لعلي سليمان الرجو، ومعبر الكنيسة، في بلدة الكنيسة، لمحمد عوض.
علماً أنه مع وضع بعض هذه المعابر تحت مجهر الجيش منذ أسابيع، بات العمل عليها أكثر صعوبة من ذي قبل.
هل تستفيد الدولة اللبنانية من التهريب؟
واقع الحال أن الدولة اللبنانية تستفيد من التهريب، من خلال عائدات الشركات النفطية، نتيجة “توسع السوق النفطي” إلى الداخل السوري.
في المقابل، فإن ارتفاع حجم استيراد المحروقات اللبنانية، في جزئه غير الشرعي، يجعل العجز في الميزان التجاري هو الآخر يكبر.
صحيح أنه لا عجز بالمعنى الفعلي، لكن، إذا افترضنا أن السوريين استوردوا مليار دولار في العام من المحروقات، سيظهر عجز بالأرقام بمليار دولار في الميزان التجاري، لأنه لم يكن تصديراً شرعياً، أي لم يدخل بشكل رسمي في أرقام صادرات الميزان التجاري.
ويبقى الحل بعودة التصدير الشرعي الرسمي للجم سوق التصدير عبر التهريب غير الشرعي، علماً أن أياً من شركات المحروقات في لبنان، لن تتجرأ على التصدير بشكل رسمي قبل رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، الموضوعة في عهد نظام بشار الأسد، والتي إن رفعت، تصبح عمليات تصدير المحروقات شرعية بين لبنان وسوريا. علماً أن الشركات المستوردة للنفط في لبنان، أبدت استعدادها للعمل في الداخل السوري وتحضرت لذلك لوجستياً تمهيداً لمرحلة ما بعد العقوبات، وهذا طبعاً يحتاج عودة سريعة لعمل المعابر الشرعية وإصلاح طرقاتها.
في الأثناء، فإن الاستحقاقين الانتخابيين البلدي والنيابي ينتظران وادي خالد، والأهالي لا يستبشرون خيراً. يقول أحدهم: “شكلنا رح نخلص من نواب تهريب المازوت لنبتلي بمرشحين هم تجار مخدرات بلش يتروج لأسماؤن”.
ويبقى التعويل على أن تسترد الدولة وادي خالد إلى حضن الشرعية، وبأن يوصل أهالي عكار ممثلين عنهم للمجلس النيابي، يمثلون بدورهم الشرعية اللبنانية، ويعملون لأجل لامركزية تنصف عكار وأهلها بعد سنوات الحرمان الذي رمى أهلها في اقتصاد غير شرعي.