اخبار عربية ودوليةالرئيسية

“مسيحيو سورية اليوم .. من الخوف إلى الرحيل”

بقلم المهندس باسل قس نصر الله

الرحيلُ هو نوعٌ من الهروبِ نتيجةَ الخوفِ من البقاءِ. هذه حالُ الكثيرِ من المسيحيينَ – والأقلياتِ الأخرى – الذينَ يواجهونَ اليومَ تحدياتٍ جسيمةً تتعلقُ بالخوفِ والهجرةِ، بعدَ الصراعِ الدامي الذي عصفَ بالبلادِ منذ عامِ 2011 حتى 2024، فقد أدّتِ الحربُ إلى تدهورِ الأوضاعِ الأمنيةِ والاقتصاديةِ، مما دفعَ بالعديدِ من المسيحيينَ إلى مغادرةِ وطنِهم بحثاً عن الأمانِ والاستقرارِ.

قبلَ اندلاعِ الأزمةِ، كانَ المسيحيونَ يشكلونَ نحوَ 7% من سكانِ سوريا، أي برقمٍ يدورُ حولَ مليونٍ ونصفِ المليونِ نسمةٍ، متوزعينَ على مختلفِ الطوائفِ. وكانوا يعيشونَ في معظمِ المحافظاتِ السوريةِ. إلا أنَّ السنواتِ الأخيرةَ شهدتْ هجرةَ النِصف منهم، خاصةً من فئةِ الشبابِ، نتيجةَ لتفاقمِ المعاركِ وتردي الوضعِ الاقتصاديِّ.

تتنوعُ أسبابُ هجرةِ المسيحيينَ من سوريا، فمنها الأمنيةُ المتعلقةُ بممارساتِ الأجهزةِ الأمنيةِ وغيرها في مناطقٍ سيطرَ عليها النظامُ السابقُ والجماعاتُ المتشددةُ في المناطقِ الأخرى، ومنها الاقتصاديةُ بسببِ تدهورِ الأوضاعِ المعيشيةِ، بالإضافةِ إلى أسبابٍ سياسيةٍ مرتبطةٍ بالاحتقانِ السياسيِّ في البلادِ.

علاوةً على ذلكَ، يخشى المسيحيونَ من تكرارِ سيناريو العراقِ، حيثُ أدى العنفُ الطائفيُّ بعدَ عامِ 2003 إلى نزوحِ أعدادٍ كبيرةٍ من المسيحيينَ. وبالرغمِ من تطميناتِ بعضِ الفصائلِ المعارضةِ بعدمِ استهدافِ المسيحيينَ، إلا أنَّ المخاوفَ لا تزالُ قائمةً، خاصةً معَ تصاعدِ نفوذِ الجماعاتِ المتشددةِ والأخبارِ التي تردُ من هنا وهناكَ وآخرُها ما حدثَ من “انهيارٍ أمنيٍّ” أدّى إلى تجاوزاتٍ وإسالةِ دماءِ في الساحلِ بشكلٍ مخيفٍ، مما حدا بيوحنا العاشرِ بطريركَ الرومِ الأرثوذكسِ – أكثرُ من نصفِ مسيحيي سورية – أن يوجّهَ كلامَه إلى الرئيسِ أحمدِ الشرعِ ويتكلمَ بصراحةٍ عن التجاوزاتِ المرعبةِ، وكانتْ كلماتُه تحوي بينَ جوانبِها الخوفَ من المستقبلِ.

في ظلِّ هذهِ الظروفِ، يشعرُ المسيحيونَ بالقلقِ على مستقبلِهم في سوريا. فقدْ أدى غيابُ الاستقرارِ الأمنيِّ والسياسيِّ إلى تزايدِ الهجرةِ، مما يهددُ بفقدانِ التنوعِ الثقافيِّ والدينيِّ الذي عرفتْ به سوريا عبرَ تاريخِها. ويبقى التحديُّ الأكبرُ هو ضمانُ حمايةِ حقوقِ الأقلياتِ وضمانُ تمثيلِها العادلِ في أيِّ تسويةٍ سياسيةٍ مستقبليةٍ، للحفاظِ على النسيجِ الاجتماعيِّ السوريِّ المتنوعِ، وهو ما لم تطرحْه مسودةُ الإعلانِ الدستوريِّ.

يخافُ المسيحيُّ – والأقلياتُ الأخرى – من نهجَين: الانتقاماتِ والفكرِ المتطرفِ. وقدْ كانَ طرحُ العدالةِ الإنتقاليةِ هو حلَّ النهجِ الأولِ حيثُ ستتمُّ محاسبةُ الذينَ مارسوا القتلَ والابتزازَ وغيرها من كلِّ الأطرافِ، أما نهجُ الفكرِ المتطرفِ فهو يأتي من المقاتلينَ الأجانبِ الذينَ يحملونَ فكراً دينياً إقصائياً.

خلالَ الأسابيعِ الأولى من التحريرِ كانتِ الفصائلُ منضبطةً نوعاً ما، خلا بعضَ الأعمالِ التي نُسبتْ إلى تصرفاتٍ فرديةٍ مثلَ حرقِ شجرةِ الميلادِ والدعوةِ الضوضائيةِ إلى التحجّبِ وإطلاقِ اللحى وغيرها من التصرفاتِ التي يعتبرُها السوريونَ استفزازيةً وهيَ بالحقيقةِ جديدةٌ على مجتمعاتِنا.

ونجدُ في القرآنِ الكريمِ آياتٍ تدعو إلى التعايشِ والتسامحِ بينَ مختلفِ الأديانِ – وهو شيءٌ يرفضُه الفكرُ السلفيُّ على أساسِ أنها من الآياتِ المنسوخةِ ولا يعترفونَ إلا بالآيةِ الخامسةِ من سورةِ التوبةِ المسمّاةِ بآيةِ السيفِ ومنها: “فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ”.

هذا الخوفُ معَ الضخِّ الإعلاميِّ والكلامِ الاستفزازيِّ والتأجيجِ الطائفيِّ يجعلُ جميعَ الأقلياتِ ومنها المسيحيةَ تخافُ، وتخافُ، وتخافُ، وتفكّرُ ألفَ مرةٍ بالرحيلِ وهو ما يحدثُ الآنَ بغضِّ النظرِ عن كلامِ التنميقِ وكرنفالاتِ التطميناتِ.

هناكَ فئةٌ أعدادُها كثيرةٌ تملكُ السلاحَ والفكرَ الإقصائيَّ وقدْ انفجرتْ مرةً في الساحلِ السوريِّ ولا نعرفُ متى ستتفجرُ مرةً أو مراتٍ وبدونِ محاسبةٍ صارمةٍ.

ختاماً، يتطلبُ الحفاظُ على الوجودِ المسيحيِّ في سوريا جهوداً مشتركةً من جميعِ الأطرافِ لضمانِ حقوقِهم وحمايتِهم من المخاطرِ، والعملِ على بناءِ دولةٍ تحترمُ التنوعَ الدينيَّ والثقافيَّ، وتضمنُ لمواطنيها العيشَ بكرامةٍ وأمانٍ.

اللهم اشهدْ أنّي بلّغتُ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى