اقتصادالرئيسية

دعوى “اليوروبوندز”: توقيتٌ مريبٌ وضغطٌ مصرفي -حكومي

شربل البيسري - الجمهورية

في خطوة مفاجئة أثارت جدلاً واسعاً، قرّرت المصارف اللبنانية رفع دعاوى قانونية ضدّ الدولة، متسبِّبةً في حالة من القلق حول مستقبل النظام المالي في البلاد. يأتي هذا القرار في توقيت حساس، تزامناً مع اقتراب انتهاء مهلة التمديد لحاملي سندات «اليوروبوندز»، ممّا يفتح الباب أمام تداعيات قانونية واقتصادية قد تعرقل جهود الحكومة الجديدة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي وإنعاش الاقتصاد.

وأكّد المحامي والمحاضر في جامعة القديس يوسف (USJ) كريم ضاهر، أنّه تفاجأ بقرار المصارف اللبنانية التوجّه نحو رفع دعاوى ضدّ الدولة، ورأى أنّ هذا الأمر «غريب ومثير للشكوك. تفاجأتُ من المبادرة في هذا التوقيت بالذات الذي يبشّر بإنفراج الأوضاع مع عهد جديد وحكومة عازمة على إجراء الإصلاحات اللازمة. إلّا إذا كان الهدف من هذه الخطوة الضغط على الحكومة الجديدة وتقوية ورقة المصارف التفاوضية. لذا، من الضروري العودة إلى الأساسيات لفهم طبيعة ونظام سندات «اليوروبوندز»، وكيف وصلنا إلى هذه المرحلة، وما هي تداعيات هذه الخطوة في هذا التوقيت تحديداً».

كيف تطوّرت الأمور إلى هذا الحدّ؟

ويسرد ضاهر بأنّ هذا التطوّر يأتي بعد لقاء جمعية المصارف برئيس الجمهورية جوزاف عون، يوم أبدت حُسن نيّتها للتعاون وفتح صفحة جديدة للوصول إلى حلول عادلة ومفيدة لجميع الأطراف. ومن اللافت أنّ هذه الخطوة جاءت بعد تشكيل الحكومة وإقرار البيان الوزاري، الذي خلا من أي إشارات واضحة وتفسير مفصّل إلى التحقيقات الجنائية أو المحاسبية أو حتى فتح ملفات الماضي لتبيلن الحقائق والتجاوزات وتحديد المسؤوليات، ممّا قد يُعتبَر أمراً مطمئناً للمصارف، إذ لم يتضمّن البيان الوزاري جدولاً زمنياً واضحاً لتحديد الأولويات وتطبيق القوانين النافذة وأنظمتها التطبيقية، بل جاء بنبرة تصالحية تضمّنت وعوداً من دون خطط تنفيذية ملزمة ومحدّدة مهلها زمنياً.

لذلك، يرى ضاهر أنّه «لا يبدو أنّ هناك أي مبرّر لهذا التسرّع في اتخاذ إجراءات قانونية ضدّ الدولة اللبنانية في ما يتعلّق بالفوائد أو أصل الدَين الناجم عن سندات «اليوروبوندز»، لأنّ الحكومة اللبنانية السابقة، برئاسة الرئيس ميقاتي، أخذت الملف في الاعتبار، وسعت إلى حماية حقوق حاملي السندات من خلال تجنّب خسارتهم للفوائد المستحقة من خلال تمديد مِهل السقوط بمرور الزمن لثلاث سنوات إضافية أي لغاية شهر آذار 2028. لكن، من جهة أخرى، هناك مسؤولية كبيرة على الدولة اللبنانية، إذ من غير المنطقي أن تُترك الفوائد تتراكم بهذه الطريقة منذ انقطاعها غير المنظّم عن التسديد، ما أدّى إلى تضخّم الدَين من 32 مليار دولار تقريباً إلى ما يقارب 45,3 مليار دولار خلال 5 سنوات فقط، أي بزيادة أكثر من الثلث تقريباً، في وقت كانت أسعار السندات منخفضة جداً وكان يمكن إعادة شرائها».

ويُذكّر ضاهر، في ذلك الوقت كانت هناك دعوات للدولة من أجل شراء سندات «اليوروبوندز» لألّا تتراكم الفوائد ولا ترتفع قيمتها ضدّ مصلحة الدولة، لكن «بقيت الدولة اللبنانية راوح مكانك والتسويف والتسويف».

أي محاكم مختصة وما هو المسار القانوني؟

من الناحية القانونية لمرور الزمن على المطالبة بالسداد، يشرح ضاهر أنّها حيث الإختصاص القضائي والمكاني تخضع إلى المحاكم الأميركية، «والقضاء الأجنبي ليس مشابهاً للقضاء اللبناني. الاتفاق الذي يرعىسندات «اليوروبوندز» هو أنّ حاملي السندات إذا لم يطالبوا بسداد الفوائد لمدة 5 سنوات، يسقط حقهم بالمطالبة بهذه الفوائد ويبقى الحق قائماً بالنسبة لأصل الدين، أما وفي حال لم يطالبوا بأصل الدين لمدة 10 سنوات، يسقط حقهم بعد 10 سنوات. هنا كان الضغط من حاملي السندات اللبنانيِّين والأجانب، بأنّهم قد يخسرون حقهم بالمطالبة بالفوائد، ويجب رفع دعاوى».

يومذاك، مدّدت حكومة الرئيس ميقاتي مهلة مرور الزمن لـ3 سنوات إضافية تنتهي في آذار 2028، ويُفترض أن يكون ذلك الأمر مريحاً لحاملي السندات؛ رغم الإدعاء المتأخّر بأنّها كانت حكومة تصريف أعمال.

أما بالنسبة إلى حاملي السندات الأجانب الذين قد يتحرّكون قضائياً بدورهم إذا ما بادرت المصارف اللبنانية بذلك، يُشير ضاهر إلى أنّه «لا أرى أنّهم يُحضّرون راهناً ضغطاً على الدولة اللبنانية التي بدأت مرحلة إعادة تكوينها. فلو كُنّا ما زلنا نراوح مكاننا، لما كانوا سيتردّدون لمقاضاتها. فاليوم انتُخب رئيس للجمهورية بخطاب قَسَم واعد، وتبعه تشكيل حكومة جديدة يُفترَض أنّها تضمّ شخصيات كفوءة وببيان وزاري مُطمئن، بالإضافة إلى دعم أجنبي قَلَّ مثيله في السنوات الأخيرة، منذ تقريباً مؤتمرَي باريس 1 و2، أو ربما اتفاق الطائف».

هذا الدعم والوعود المعطاة يُفترَض أنّها لمساعدة الدولة للوقوف على رجلَيها وقبول التمويل لإعادة الإعمار وإطلاق الحركة الاقتصادية والاستثمارات. لكن لماذا اختارت جمعية المصارف الطريق المعاكس؟ هنا يُشير ضاهر برَيبة إلى «التوقيت الذي يُبرِّرون بأنّ قرار التمديد الصادر عن حكومة تصريف الأعمال الأخيرة يشوبه عيوب، ولا يمكنها تمديد مهلة مرور الزمن لأنّها حكومة تصريف أعمال مع صلاحيات محدودة. إذاً، لماذا اليوم الاعتراض على قرار صادر منذ أكثر من شهرَين أو ثلاثة؟ لم يعترضوا آنذاك،. أمّا الآن فتأتي جمعية المصارف لتضع ضغطاً على الحكومة والعهد قبل أسبوعَين من المَوعد، وذلك من أجل أن تُصعِّد موقفها التفاوضي بوجه الحكومة وتحرجها بخياراتها».

لماذا الادّعاء اليوم؟

وبحسب ضاهر، من المحتمل أن تكون قد اتخذت جمعية المصارف هذا القرار لأنّها ترى بأنّ الحكومة الجديدة متّجهة إلى «تطبيق القوانين أو استحداث خطة لإعادة تسديد الودائع. فشئنا أم أبينا، سيتحمّل المساهمون والمسؤولون في المصارف مسؤولية إعادة الرسملة. وإذا لم يَقدِروا، تتمّ تصفِية المصرف وتتمّ مساءلتهم على ذمّته المالية الخاصة وفقاً للقوانين الموجودة أو التي سيُصار إلى إقرارها وتطبيقها من خلال أية إعادة هيكلة. وهنا لا يمكنهم الهرب من المسؤولية القانونية كمسؤولي مصارف إلّا من خلال عفوٍ عمّا مضى يطمحون إليه وتحميل الدولة ومصرف لبنان كامل المسؤولية، وإن على حساب المصلحة العامة.

وبما أنّها ليست المحاولة الأولى من المصارف لتحميل الدولة المسؤولية، يُذكِّر ضاهر بالنزاع المقدّم في نهاية كانون الأول 2013 مع الدولة اللبنانية من خلال ربط النزاع مع الدولة بشخص وزير المال، مطالبين الدولة بسداد دَينها لمصرف لبنان وتغطية الخسائر التي تظهر في ميزانيّته، وفقاً للمادة 113 من قانون النقد والتسليف التي يتحفّظ ضاهر على تفسيراتها لمحاولة المصارف الحلول مكان مصرف لبنان في المطالبة بحقوقهم القانونية.

ما هي وجهة نظر «المصارف»؟

بحسب أحد المصرفيِّين الكبار، الذي رفض الكشف عن هويّته لحساسية الموضوع وعدم إيكاله التحدّث للإعلام، إنّ الخطوة القانونية تهدف إلى حماية أصولها وضمان حقوق المودعين، فاتخذت جمعية المصارف اللبنانية قراراً استراتيجياً، عقب اجتماع لمجلس إدارة الجمعية، تبيّن خلاله ضرورة التحرّك قبل حلول الموعد الحاسم في 9 آذار.

ويضيف المصدر لـ«الجمهورية»، أنّ هذا الإجراء «يأتي في سياق الجهود المتواصلة التي تبذلها المصارف للحفاظ على أموالها وأموال المودعين، خصوصًا بعد تعثّر الدولة اللبنانية في الإيفاء بالتزاماتها المالية. فالمصارف، التي كانت حتى الأمس القريب داعماً أساسياً للاقتصاد الوطني، وتجد نفسها اليوم مضطرة لاتخاذ خطوات قانونية للدفاع عن مصالحها وعن أموال المودعين التي أُنفِقت من قبل الدولة على مشاريع غير منتجة، من دون أي مسار واضح للمحاسبة أو إعادة الهيكلة».

ويؤكّد المصدر، أنّ خطوة جمعية المصارف «ليست مجرّد تحرّك قانوني بل محاولة للحفاظ على استقرار القطاع المصرفي ومنع تحميل المصارف وحدها عبء الأزمة المالية التي كانت نتيجة سياسات مالية غير مسؤولة على مدى عقود. كما أنّ التحرّك يهدف إلى إعادة التوازن في التفاوض مع الحكومة وصندوق النقد الدولي، فلا تتحمّل المصارف وحدها الخسائر الناجمة عن التعثر المالي للدولة. بخلاف ما يُروَّج له، فإنّ الهدف الأساسي لهذه الدعوى ليس الضغط على الحكومة بل تأمين حقوق المودعين وحماية القطاع المصرفي من أي إجراءات قد تؤدّي إلى انهياره بالكامل. فالضغوطات التي تُمارَس على المصارف، إذا لم تواجَه بتحرّكات قانونية مدروسة، قد تؤدّي إلى فقدان الثقة بالنظام المصرفي اللبناني، ممّا سيؤثر سلباً على قدرة لبنان على استعادة عافيته المالية».

ماذا تمتلك الحكومة لتعزيز وضعيّتها؟

لكنّ السؤال هو أنّ علاقة المصارف ليست مع الدولة إلّا في ما يخصّ «اليوروبوندز»، لكن بالنسبة إلى الودائع لماذا لم تدّعِ على مصرف لبنان؟ يُجيب ضاهر: «لأنّ مصرف لبنان هو الناظم للقطاع وهو الذي يحاسبهم على تجاوزاتهم وتفسيرهم. إذا طبّق القوانين الموجودة بحوزته، يمكنه استعمال المادة 208 من قانون النقد والتسليف لكل مصرف لم يلتزم بالتعاميم الصادرة عن المركزي، مثل التعميم رقم 154 مثلاً الذي يُجبر أصحاب وإداريي المصارف على إعادة 30% من أموالهم بالخارج وتأمين أموال حرّة (أي جاهزة) بما يعادل نسبة 3% من مجموع الودائع بالعملات الأجنبية لديهم. هنا يمكن لمصرف لبنان معاقبتهم بدءاً من التوبيخ وصولاً إلى تعيين مدير موقت وبشطب المصرف».

ويُضيف ضاهر، أنّه يمكن للمصرف المركزي أيضاً تطبيق القانون رقم 110 /91 لوضع اليد على المصرف الذي لم يعد بوسعه متابعة أعماله، مثل ما حدث مع «جمّال ترست بنك» و»بنك لبنان الكندي»، بذلك، يحجز مصرف لبنان «أموال كل أعضاء مجلس الإدارة ويُحقّق معهم ويغيّر الإدارة، لأنّه في هذه الحالة يَعتبر أنّ المصارف لا تلتزم بواجباتها، وذلك يَسهُل إثباته بسبب كَمّ الدعاوى ضدّ المصارف لاسترداد الودائع، وهم غير قادرين على الردّ. كما يمكنه أيضاً تطبيق القانون 2 /67، ويعتبر أنّ المصارف بحالة توقف عن السداد بغضّ النظر عن وضع الدولة ووضع مصرف لبنان».

هنا بات واجباً على الحكومة الجديدة إعادة موازين القوى للدولة واستعمال حقوقها، خصوصاً أنّها حكومة كاملة الصلاحيات أي بإمكانها تمديد المهل لحاملي السندات المحليِّين والأجانب من دون أي معوّقات قانونية، لتضع حداً لأي محاولة «ابتزازية»، ووضع خطة إعادة هيكلة ورسملة القطاع المصرفي على السكة الصحيحة، لتسهيل عملية سداد الودائع وفق الأولويات، بالإضافة إلى إعادة التفاوض على سداد سندات «اليوروبوندز» في الداخل والخارج.

ويؤكّد ضاهر أنّ حاملي السندات من المصارف اللبنانية لا تتجاوز قيمة سنداتهم 2,3 مليار دولار، أي أنّها لا تساوي سوى 2% من مجمل أصول المصارف والحسابات المصرفية الموجودة، لكنّ «المساهمين ومسؤولي المصارف يخافون أن يتحمّلوا المسؤولية، وأن يكونوا في الواجهة عند تحديد المسؤولين عن الأزمة لمعالجتها، خصوصاً أنّ العهد الجديد: حكومة ومصرف مركزي، يمتلكون موقفاً قانونياً أقوى بكثير من مسؤولي المصارف، ويجدر أن يضرب بيَد من حديد لعدم وضع أي عثرة في خطة إعادة الدولة إلى سكة التعافي».

تداعيات خطوة المصارف

إذا أصرّت المصارف على رفع الدعاوى، فقد يؤدّي ذلك إلى تحرّك حاملي السندات الآخرين، الذين يمتلكون ديوناً تتجاوز 30 مليار دولار، ما قد يُعرّض الدولة اللبنانية لمطالبات قانونية ضخمة تصل مع الفوائد المتراكمة إلى 45 مليار دولار.

وهذا سيمنع الدولة من تنفيذ خطط إعادة هيكلة الدين، أو إعادة أموال المودعين، كما قد يؤدّي إلى وضع اليَد على احتياطي الذهب، الذي تُقدَّر قيمته بـ 26 مليار دولار، أو الاحتياطي الإلزامي بالعملات الأجنبية البالغ 10,3 مليار دولار، ما سيؤثر سلباً على الاقتصاد ككل وإعادة إطلاق عجلته وتنفيذ أي مبادرات لخلق شبكة أمان إجتماعية وإعادة إصلاح البنى التحتية لجذب الإستثمارات الضرورية وإعادة الثقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى