
في وضح النهار، و«على عينك يا تاجر»، تُركَّب مضخات في نهر بيصور، وتُمدُّ خراطيم المياه من قلب النهر إلى محطات التكرير المجاورة، ومنها إلى آبار وخزانات كبيرة، تمهيداً لبيعها. عناصر السرقة مكتملة وموثّقة في مقاطع مصورة حصلت عليها «الأخبار». والمرتكبون معروفون في البلدة، من بينهم شقيقان وابن عمهما، وأحدهم يملك محطة تكرير قرب النهر، حيث يبيع المياه «التي يسرقها»، ويُغطي ذلك بزعم أنه يغذي محطته بمياه نبع خاص.
والاثنان الآخران يجران المياه إلى مشاتل بعيدة من النهر خارج بيصور، لا يحق لها الاستفادة من مياه النهر بالكميات الكبيرة التي تحصل عليها.
يجري ذلك رغم وجود قوانين تجرّم هذه التعديات على الأملاك العامة، ولكن لا يبدو أن هناك من يريد تطبيقها، مع نفض كلّ طرف يده من المسؤولية، ورميها على الآخر.
وسرقة مياه نهر بيصور ليست أمراً جديداً، كما يقول أهالي البلدة الذين تعايشوا مع الأمر طوال السنوات الماضية، بعدما «فشلنا في وضع حدٍّ للتعديات التي تغطيها أكثر من جهة». ويروي أحد الناشطين البيئيين أن «القوى الأمنية تحركت قبل ثلاث سنوات لإقفال مصنع مجاور يرمي نفاياته الصلبة في النهر ويتسبب في تلوثه، وأزالت تعديات أصحاب المضخات، لنفاجأ بعد فترة وجيزة بتركيب المضخات من جديد».
لكن، ما أغضب الأهالي هذا العام هو أزمة شحّ المياه التي تمرّ بها البلاد نتيجة تراجع كمية المتساقطات خلال الشتاء الفائت، والتي عرّت الجريمة وكشفت عن نتائج أكثر كارثية، واضحة بالعين المجردة، وهي «جفاف النهر وموت الأسماك». ويشرح الناشط نفسه الأوقات التي تظهر فيها الأزمة أكثر، بالقول إن «النهر يبدو بعد الظهر أفضل حالاً، بعدما يغادر المزارعون وتتجمع المياه، بينما تعمل مولدات ضخّ المياه ليلاً بشكل أساسي فيظهر الشحّ واضحاً في الصباح».
تحرك «رفع عتب»
ورغم أنّ ملابسات الجريمة مكتملة وبالأدلة: «هناك من يسرق مياه النهر التي هي من حق أهالي البلدة والبلدات المجاورة، ليبيعها لهم». وهي لا تحتاج إلى تحقيقات مطولة، بل إلى من يتحرك للجمها، إلا أن استجابة المعنيين بطيئة بشكل غير مبرر، إذ تبدو كلّ الأطراف المسؤولة عن إزالة هذه التعديات مكبّلة أو غير معنية.
التعديات على نهر بيصور معروفة بالأسماء وكلّ طرف يرمي المسؤولية على الآخر
بدءاً من بلدية بيصور التي تسودها الخلافات والتناقضات والتي، بعد أخد ورد، وضغوطات على المجلس البلدي عقب إثارة الملف في وسائل التواصل الاجتماعي، أرسلت كتاب «رفع عتب» إلى وزارة الطاقة والمياه في 11 تموز الجاري حول المخالفات، من دون أن تتابع الملف حتى إزالتها. الأداء نفسه ينطبق على نائب المنطقة مارك ضو الذي «أثار الموضوع مع المدعي العام البيئي القاضي فادي ملكون، كما قال، وبعد الاستفسار منه عن نتيجة تحركه، أخبرنا أنهم لم يردوا عليه خبر»، بحسب مصادر بيصور.
من المسؤول؟
أما وزارة الطاقة المياه، فحدّث ولا حرج، إذ انتظرت أن تُبلّغ بنقاط التعديات التفصيلية وأسماء المعتدين لأن «جهاز التفتيش مستنزف ولا يمكنه البحث عن المخالفات، بل يقصدها مباشرة». وبعدما حصلت على ما تريد، نفضت المسؤولية عنها، ورمتها على مصلحة مياه جبل لبنان، بحجة أن «التعديات على الأملاك المائية (سحب مياه) هي مسؤولية المصلحة، فيما لو حصلت التعديات على الأملاك البرية مثل ضفاف النهر لوقعت مسؤولية إزالتها علينا»، وفق ما تُبرّره مصادر الوزارة.
وأشارت المصادر نفسها إلى أن «الوزراة طلبت مباشرة من مصلحة مياه جبل لبنان التحرك لرفع التعديات بمؤازرة من القوى الأمنية، ونحن نوجهها ونساعدها، كما أثارت موضوع التعديات عموماً على الأملاك النهرية مع محافظ جبل لبنان القاضي محمد مكاوي خلال اجتماع سابق، بتوجيه من مجلس الوزراء»، في إقرار بأن التعديات كثيرة ولا تقف عند نهر بيصور.
لكن، المثير للريبة هو استغراب مدير مصلحة مياه جبل لبنان جان جبران لدى سؤاله عن التعديات على نهر بيصور، والتي كان يسمع عنها للمرة الأولى، مؤكداً أنه «لم يصلني أي طلب من وزارة الطاقة والمياه في هذا الخصوص». ولفت في الوقت نفسه إلى أن «مسؤولية الأنهار لا تقع على عاتقنا، بل على عاتق الوزارة، ونحن نتدخل فقط إذا حصلت تعديات على قسطل مياه في الشبكة».
وبما أن التعديات على نهر بيصور تؤثر على الحياة البيئية النهرية والنظم الإيكولوجية، ولا سيما أنّ الأسماك تقع ضحية جفاف النهر، تتحمل وزارة البيئة نصيباً من مسؤولية التدخل، وإن كانت الأنهار مسؤولية وزارة الطاقة والمياه. لكن وزيرة البيئة تمارا الزين لم ترد على سؤال «الأخبار» حول مسؤوليتها عن الأمر. وإزاء تقاذف المسؤوليات، ورفض من هم في موقع القرار الاعتراف بدورهم وتحمل مسؤوليتهم، يُخشى أن تزداد التعديات على الأنهر، فيما اللبنانيون في أمسّ الحاجة إلى مواردهم المائية.