شبكة صحافيّي واشنطن «المستقلين»
تعترف مديرة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID، سمانثا باور، بأنه لا يمكن الاعتماد على «السوق الحرّة» للقيام بصحافة استقصائية حول العالم، لذلك هناك حاجة إلى الشراكة بين الحكومة الأميركية ومشاريع مكافحة الفساد «المستقلّة». كما يعترف إداريون آخرون في الوكالة بأن «التمويل غير المشروط» و«الاستقلالية التحريرية» لا تشملان تعيينات موظفي الصف الأول في المنظمات التي تتلقى التمويل من حكومتهم، فهؤلاء عليهم نيل رضى واشنطن. منظمة OCCRP هي من أكبر هذه المشاريع التي أظهر التدقيق في حساباتها رضى الإدارات المتتالية عنها. لهذه المنظمة شبكة متعاونين حيث تطال يد الإمبريالية الأميركية، وفي العالم العربي تعاونت مع شبكة «أريج» في عمّان وموقع «درج» في بيروت أكثر من مرة. منظمة أسّست بهدف «كشف الفساد» يُفترض أن تكون منفتحة على المساءلة بشأن مصادر تمويلها، لكن ما إن كشف صحافيون تعارض مصالح فاضحاً في هذا التمويل، ضغطت OCCRP على معدّي التقرير الأساسي، هيئة البث العامة في شمال ألمانيا NDR، ما أدّى إلى تراجعهم عن نشره قبل أن تستكمله وتنشره منصّة Drop Site الأميركية بالتعاون مع منصات «ميديابارت» الفرنسية و«إل فاتو كوتيديانو» الإيطالية و«مراسلون متّحدون» اليونانية. فيما رفضت وزارة الخارجية الأميركية ومؤسسة «المجتمع المنفتح» (مؤسسة جورج سوروس) الإجابة عن أسئلة معدّي التقرير
في تحقيق صحافي استقصائي نُشر في موقع Drop Site قبل أيام، للصحافي اليساري الأميركي رايان غريم والروماني ستيفان كانديا واليوناني نيكولاس ليونتوبولوس، كشف اللثام عن دور الحكومة الأميركية في تمويل مؤسسة OCCRP أو ما يُسمى «مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد». هذه المنصة التي حقّقت شهرة واسعة من خلال تحقيقات مثل «أوراق بنما» و«أوراق باندورا» لديها علاقات مع منصات إعلامية وصحافية لبنانية، تدّعي الشفافية والموضوعية في تغطياتها الصحافية. لكن ما يرد في تحقيق رايان غريم يرسم صورة أقرب إلى الواقع عن مزاعم الصحافة المستقلة بين ربوعنا، حول احترافية وشفافية OCCRP التي تعاون – ولا يزال – صحافيون استقصائيون لبنانيون، بعضهم حاز جوائز وتكريماً من الخارجية الأميركية نفسها.
يتناول تقرير Drop Site بالدراسة المتعمّقة علاقات OCCRP مع مموّليها ويفحص من خلال شهادات ومقابلات صحافية مع أشخاص من الداخل المزاعم حول الشفافية والموضوعية في التحقيقات الصحافية، ليخلص إلى الحقيقة التي نعرفها ويعرفها كثيرون، أنّ هذا المشروع ما هو إلا أداة من أدوات الحرب الناعمة الموجهة ضد الأنظمة والجهات التي تصنّفها واشنطن على أنّها معادية أو معاندة للسياسات الأميركية. «لقد أدركنا، كما قد لا تدركون، أنّ إعداد تقارير استقصائية مؤثّرة عابرة للحدود في العديد من مناطق العالم لا يتطلّب التمويل الخيري فحسب، بل يتطلّب أيضاً الدعم من الحكومات الغربية التي تدرك أن الصحافة شرط أساسي للديموقراطية. وهذا لا يشمل الولايات المتحدة فحسب، بل أيضاً العديد من بلدان الاتحاد الأوروبي». كان هذا المقطع جزءاً من ردّ هيئة تحرير OCCRP جواباً على استفسارات الصحافيين الذين أعدّوا التحقيق الاستقصائي لموقع Drop Site. بهذه الصراحة الأقرب إلى الوقاحة، يعترف القائمون على المشروع بأنّهم يتلقّون دعماً من حكومات الغرب، وعلى رأسها حكومة الإمبراطورية الأميركية لإعداد تحقيقات صحافية حول العالم. وطبعاً، علينا أن نكون سذّجاً ونصدّق أنّ الشفافية والموضوعية التي تطمح إلى نشر الديموقراطية هي غاية واشنطن من وراء الدعم والتمويل الذي تقدّمه لـ OCCRP ومثيلاتها.
منظمة أسّست بهدف «كشف الفساد» تمنع المساءلة بشأن مصادر تمويلها
وكانت «الأخبار» قد نشرت سابقاً تقريراً حول هذه المنظمة «OCCRP: صحافة استقصائيّة غبّ الطلب، 10 آذار 2022»، أوضح كيف أنّ أداء المنظّمة من أوكرانيا إلى لبنان، وفي ملفات بنما وأوراق باندورا، كان يهدف إلى التركيز على قضايا بحد ذاتها للتعتيم على قضايا أخرى أكثر أهمية، عملاً بمقولة «ما لا يُقال أهم مما يُقال». لكنه يكشف أيضاً عن علاقاتها التمويلية الوثيقة بالحكومة الأميركية، ما يثير تساؤلات حول استقلاليتها ودورها كأداة للقوة الناعمة الأميركية.
تستند OCCRP منذ تأسيسها عام 2008 إلى تمويل كبير من الحكومة الأميركية التي تمثّل المصدر الأكبر لدخل المنظَّمة. وبحسب تحليل مستندات مالية أوردها رايان غريم وزميلاه، ساهمت الحكومة الأميركية بنسبة 52% من ميزانية المنظّمة بين 2014 و2023، ما يعادل حوالي 47 مليون دولار، مع تعهُّد بمبالغ إضافية مستقبلاً. ويشير التقرير إلى أنّ الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) ووزارة الخارجية الأميركية هما الجهتان الرئيسيّتان اللتان تقدّمان هذه الأموال. وإلى جانب التمويل الأميركي، ساهمت دول أوروبية أخرى مثل بريطانيا وفرنسا والسويد بمبالغ أقل لدعم المنظمة، ما يضع OCCRP في قلب شبكة تمويل دولية تخدم أهدافاً متعدّدة، بحسب تقرير Drop Site.
وبالاستناد إلى المقابلات التي أجراها معدّو التحقيق الصحافي، يتبيّن أنّ التمويل الأميركي يتضمّن شروطاً تنظيمية مثل حق الفيتو للحكومة الأميركية في ما يخصّ التعيينات العليا داخل OCCRP، بما في ذلك المناصب التحريرية. وفيما تصرّ المنظمة على أن هذه الشروط لا تؤثّر على محتواها التحريري، يشير محللون قابلهم معدّو التحقيق إلى أنّ وجود مثل هذه القيود يُلقي بظلال من الشك حول الاستقلالية التحريرية المزعومة. وينقل تحقيق Drop Site عن مسؤولين أميركيين حكوميين مثل ميغ غايدوسيك، المسؤولة في USAID، أنّ «التمويل الأميركي جاء لتشجيع الديموقراطية ومحاربة الفساد عالمياً». من جهة أخرى، يرى مسؤولون آخرون في وزارة الخارجية الأميركية مثل مايكل هينينغ أنّ التعاون مع الصحافيين الاستقصائيين يُوفّر للولايات المتحدة أدوات ناعمة لتعزيز مصالحها، إذ «يملك الصحافيون المستقلون قدرة أكبر على كسب ثقة المصادر مقارنة بالحكومات».
يعترف التقرير بوجود انتقادات واسعة، منها انسحاب جهات إعلامية مثل هيئة البث الألمانية NDR من التعاون مع OCCRP بعد الكشف عن حجم التمويل الأميركي. كما عبّر لوييل بيرغمان، العضو السابق في مجلس إدارة المنظمة، عن قلقه من التأثير الأميركي، مؤكداً أنه انسحب من المنظمة عندما أدرك حجم هذا التمويل. ويشير غريم وزميلاه إلى أنّ OCCRP تتجنّب في الغالب انتقاد الولايات المتحدة أو التركيز على قضايا فساد داخلية، على عكس منصات مثل «ويكيليكس» التي تعرّضت لهجوم أميركي شديد بسبب فضحها جرائم الحرب الأميركية، ما يثير تساؤلات حول ازدواجية المعايير في دعم الصحافة الاستقصائية. وقد أورد التقرير آراء نقّاد رأوا أنّ OCCRP تعمل كذراع ناعمة للسياسة الأميركية، تستهدف الفساد في الدول المعادية لواشنطن دون النظر في الداخل الأميركي. ويصف أحد المحللين هذا الدور قائلاً: «تحقّق OCCRP في فساد الآخرين، ولكن التمويل يتوقف عنها إذا قرّرت التحقيق في الجهة الممولة».
وبحسب الكشف المالي لأحجام التمويل السنوية لـ OCCRP بين 2014 و2023، يتبيّن أنّ عام 2016، عندما نشرت «وثائق بنما»، كان حجم تمويل USAID وغيرها من مصادر التمويل الحكومية الأميركية 63% من ميزانية OCCRP. ومن مبلغ لا يتجاوز مليوناً ونصف مليون دولار عام 2014، تضخّمت الموازنة السنوية للمنظّمة عام 2023 لتصبح حوالي 23 مليون دولار، ما يشير إلى أهميّتها في خدمة أجندة الحكومات الأميركية المتعاقبة التي تُظهِر الأرقام أنّها كانت المموّل الأكبر للمنظمة منذ عام 2014 على الأقل.