لم تكُن مقالة أخطر أعداء الأمم عناصر من داخلها، سوى حكمة نابعة من بصيرة عارف ومطّلع بشأن هؤلاء العملاء، والأضرار التي يمكن أن يحدثوها من خلال عمالتهم التي يقدّمونها إلى الأعداء، ويأتي جهل عامة الشعوب بالمصالح والمفاسد، وما يجب أن يفعلوه وما لا يجب، عوامل من شأنها إرباك سياسات حكوماتها، أو في غالب الحالات، قبول منطق التعايش معها في عموم سياستها ولو كانت في غير صالح تلك الدول، كالتطبيع مع إسرائيل، وإطلاق دابّته على جميع التعاملات السياسيّة والإقتصادية والثقافية والفنية والرياضية.
لم يكن التطبيع حالة طارئة بين الدول العربية والإسلامية، فقد سارعت إليه تركيا بعد ايران الشاهنشاهية، إلى الإعتراف بدولة إسرائيل، وهي بتلك الوضعية الغير قانونية، مغتصبة لجزء من أرض فلسطين وليس كل فلسطين، لكنّ ذلك لم يمنعها المحافظة على العلاقة كاملة معها، تلك العلاقة السيئة الذّكر، تخلّصت منها ايران بعد ثورتها الإسلامية بقيادة الإمام الخميني سنة 1979، ونجح بهمّة شعبه في أسقاط نظام الشاه بهلوي العميل – ليس فقط لإسرائيل بل لأمريكا والغرب أيضا – لكنّه بعد انتصار الثورة، وأوّل عمل سياسي قام به قائد إيران، الأمر بطرد البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية من طهران وإغلاق سفارتها، وتسليمها بعد ذلك إلى منظمة التحرير الفلسطينية باسم سفارة فلسطين، وهو تحوّل راديكالي عنيف، كانت له نتائج إيجابية على الملف الفلسطيني.
هذا من ناحية التطبيع العلني والمباشر قديما، وكان متزامنا مع قيام إسرئيل، أما التطبيع السرّي والمخفيّ عن الشعوب، فقد كان معلوما لدى النخب المثقفة لتلك الشعوب، التي استطاعت أن تكشف بعض ما كان محاطا بسرّية، أمكن لها من خلال اطلاعها الواسع، إزاحة لثام السرّية عنها، ومرّت على عامة الشعوب في كنف الهدوء والقبول التّام، فلم تنتبه إليها مع تلك الإحاطة.
فعلى سبيل المثال علاقات بورقيبة بإسرائيل كانت قديمة، حتى قيل أنّ اصوله يهودية، سرعان ما ظهرت ميولاته من خلال مواقفه من القضية الفلسطينية، ولم تكن مبادرته إلى الإعتراف بإسرائيل، من خلال رسالة بعث بها إلى الرئيس المصري عبد الناصر، بتاريخ: 28/4/1965 رفض الأخير فتحها، وفي المقابل رحّب بها الرئيس الإسرائيلي (ليفي أشكولLevi Eshkol)، وبسبب تلك الرسالة اندلعت مظاهرات عنيفة في القاهرة، حاول فيها الطلبة المتظاهرون من تونس وشمال افريقيا وفلسطين، اقتحام السفارة التونسية، للتعبير عن غضبهم واستيائهم من تلك المبادرة، لكن قوات الأمن منعتهم من ذلك وقامت بتفريقهم، المؤشر اللافت الذي أبداه بورقيبة تعيينات وزارية ظهرت منذ بداية الإستقلال الداخلي حيث وقع تعيين (ألبير بسيسAlbert Bessis) سنة 1955 و(أندريه باروشAndré Baruch) في مناصب حكومية سنة 1956.
أما في الغرب، فلم يكن دور الملك (محمد الخامس) و(الحسن الثاني) أقلّ من بورقيبة، هؤلاء العملاء استغلوا بساطة شعوبهم وتصديقهم بألحان أقولهم المزيفة فسكتوا على ما قاموا به من تعاطف مع اليهود، وكان الصحفي المصري (محمد حسنين هيكل) قد أكّد على الدور الكبير الذي قام به الملك (الحسن الثاني) في التمهيد لاتفاقية كامب دافيد سنة 1978، و دورٌ آخر لا يقلّ أهمّية في توقيع اتفاقية (أوسلو) للسلام لعام 1993، وشاع عن الملك (الحسن الثاني) قوله: (عندما يغادر يهودي مغربي بلده نخسر مُقيما، ولكننا نربح سفيراً)، وتبيّن من خلال هذه المقالة، أن السلطة المغربية تحتفظ بعلاقات جيّدة، مع جاليتها اليهودية من أصل مغربي داخل إسرائيل، علاقات متداخلة من القمّة إلى القاعدة.
ولم تكن جهود الوريث للعرش المغربي (محمد السادس) بأقلّ من أبيه وجده، فقد أذِن سنة 2010 بمباشرة ترميم المعابد والمقابر ومواقع التراث اليهودي، ووافق على إعادة كثير من المُسمّيات لشوارع وأزقة لأحياء يهودية، قد تمّ استبدالها بعد الاستقلال، تعبيرا منه على تعاطف كبير نحو اليهود، شخصيات وتاريخ، هذه الاعمال لم تكن لتحصل لولا وجود علاقات متينة بين الأسرة الملكية المغربية واليهود، وكان للمهرجانات المغربية نصيب في استضافة فنانين من إسرائيل، للمشاركة فيها.