مرة جديدة، تقف المقاومة في لبنان أمام انقسام سياسي حول أصلها وفصلها ووظيفتها ودورها ومستقبلها. وأي تغيير في المواقف، لا يعكس بالضرورة تحوّلات كبرى، بقدر ما يعكس طبيعة موازين القوى الحاكمة. وإذا كانت جريمة غزة غير المسبوقة دفعت بالبعض إلى الصمت، ولو من باب الحياء، إلا أن هذا البعض حاله كالأفاعي التي تنتظر لحظة الانقضاض على الفريسة.قد تكون صعبةً مجاراة كل صاحب رأي في ما تفعله المقاومة، لأن الأمر يعود أصلاً إلى طبيعة النقاش وهدفه. وإذا كان بيننا، في لبنان، أو العالم العربي، من لا يزال يرفض المقاومة فكرة أو خياراً لمواجهة التوحّش الأميركي – الأوروبي – الإسرائيلي، فمن الأفضل تجاهل هؤلاء بصورة تامة. وإذا احتجّ بعضهم على إهمالهم باعتبار ذلك سلوكاً عدائياً ينمّ عن فوقية واستعلاء من جانب المقاومة، فإن الدونية التي تتسم بها طبائع هؤلاء لن ترفعهم إلى مرتبة عليا عند المجرم الغربي. وقد يكون مفيداً أن يُترك أمرهم إلى من ابتُلينا بهم من «جوقة فائض القوة»!
لكن، ثمة جهات مركزية تتمثل أساساً في المقاومة الفلسطينية، التي تقود اليوم أصعب جولات القتال مع هذا العدو اللئيم. وهي من يجب التوقف عند رأيها، والاستماع إلى ملاحظاتها، ومناقشتها في كل ما يتصل بسلوك المقاومة في لبنان على وجه الخصوص. وهو نقاش تظهر أهميته عند كل محطة، وآخرها كيفية التعامل مع ردّ حزب الله على اغتيال القائد العسكري فؤاد شكر.
لنعد قليلاً إلى الوراء، وتحديداً إلى الأسبوع الأول الذي تلا عملية «طوفان الأقصى». يومها قام نقاش على أساس النداء الذي وجّهه قائد «كتائب القسام» المجاهد محمد الضيف، داعياً قوى المقاومة في لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران إلى الانخراط في المعركة مع العدو. وهو نداء لم يكن يترك مجالاً لنقاش بارد، باعتبار أن الحرب قامت، وأن ردة فعل العدو ظهرت ملامحها في الجنون الذي اتّسم به سلوك جيش الاحتلال وشرطته في معارك غلاف غزة، حيث لم يرفّ جفن ضابط أو جندي أو مسؤول وهو يأمر بقتل كل ما يتحرّك على الأرض. قبل أن ينتقل العدو، برعاية خارجية استثنائية، إلى إطلاق أكبر عملية إبادة ضد شعب، عرفتها البشرية خلال قرنين على الأقل، وهي المذبحة المستمرة ضد الفلسطينيين في غزة والمرشّحة لأن تمتد إلى الضفة الغربية وبقية مناطق فلسطين.
وفي تلك الفترة، انتظر الجميع، ولأسابيع، لمعرفة موقف حزب الله. وقبل الخطاب الأول للسيد حسن نصرالله، انطلق النقاش بين القيادات السياسية والعسكرية لفصائل المقاومة في لبنان وفلسطين ومع إيران واليمن، وكان السؤال الأول والأساسي الذي طرحه حزب الله على حلفائه: هل تعتقدون بأن انخراطنا الكامل في الحرب سيؤدي حتماً إلى وقف العدوان على غزة؟
حصل تضارب في التقدير والتقييم، لكنّ الخلاصة التي أقرّ بها قادة المقاومة الفلسطينية، حسمت بأن أي أمر تقوم به قوى المقاومة لن يمنع العدو من السير في خطته ضد القطاع، وأُضيف على ذلك لاحقاً إقرار بتقدير مستجدّ، يقول إن توسّع الحرب الآن يعني استدعاء الغرب المتوثّب للدفاع عن إسرائيل للانخراط في الحرب. ولا يوجد يقين عند أحد لما ستؤول إليه الأمور.
بناءً على هذه الخلاصة، انتقل البحث سريعاً نحو تحديد المهمة المطلوبة، والتي أُطلق عليها، اسم «عملية الإسناد»، وهدفها إفهام إسرائيل، ومعها الأميركيون وبقية الغرب، بأن غزة ليست وحيدة. كما هدفت إلى إشغال جيش الاحتلال بما يحدّ من اندفاعه بكامل قوته للحرب على غزة، إضافة إلى فتح الباب أمام تحولات ميدانية وسياسية، تساعد المقاومة الفلسطينية على صياغة خطواتها اللاحقة. وتمّ في هذا السياق تفعيل برنامج التعاون العسكري والأمني من خلال غرفة العمليات المشتركة، التي تضمّ كل القوى الأساسية في محور المقاومة، بما في ذلك إيران.
مرّت أسابيع قاسية قبل التوصل إلى اتفاق الهدنة الأولى تحت عنوان تبادل للأسرى المعتقلين وإدخال مساعدات إلى القطاع المحاصر، وفتح الباب أمام حل سياسي. في تلك الفترة، قامت خلافات فعلية على مستوى تقدير الموقف، لكنّ الجميع أقرّ بأن العدو يتعامل مع الحدث بطريقة لا تشبه سلوكه في كل العقود السابقة. وبالتالي، فإن فكرة الحرب الطويلة واقعية وقابلة للعمل، وهو ما أثبتته الأيام، خلافاً لما كان يعتقده كثيرون بأن العدو ليس مستعداً لتحمّل تبعات حرب طويلة، وخرج من يتحدث عن تجارب العدو السابقة في الحروب السريعة، ومدى استعداده لتحمّل الأثمان البشرية والمادية. وحتى بعد مرور أشهر على الحرب، كان لا يزال بين قوى المحور من يعتقد بأن عدم رغبة العدو نفسه، أو الغرب الداعم، بتوسّع الجبهة، سيتحول إلى عامل لكبح جماح إسرائيل، ودفعها إلى البحث عن مخرج يوقف الحرب على غزة. وهو أمر ثبت أنه غير دقيق أيضاً، الأمر الذي دفع جبهات الإسناد إلى البحث في سبل تعديل طريقة عملها، بما يخدم الفكرة الأولى، أي تحويل الضغط الجانبي على العدو، إلى ضغط يهدف إلى دفعه لوقف الحرب والذهاب نحو حل.
وعندما تقرّر فتح جبهات الإسناد، كان الجميع يعرف أن هناك قواعد جديدة للاشتباك. وفي جبهة لبنان، مثلاً، قام تماس شديد الحساسية بين المقاومة والعدو. لكنه تماس من نوع مختلف. وكلنا يذكر كيف أن خيمة مع عنصرين في المقاومة دفعت إلى مفاوضات وتوترات، وجعلت الجميع يشعر برعب الحرب إن وقعت. لكنّ العاصفة التي قامت بعد «طوفان الأقصى» اقتلعت الخيمة من جذورها، ودفعت الجميع إلى موقع جديد في التقدير والفعل وفي القتال، وهو ما جعل المقاومة في لبنان تختار نهجاً عسكرياً لم يكن وارداً في حساباتها سابقاً، ما اضطرها إلى إطلاق عملية تكيّف مع الواقع الجديد، وتحمّل أكلاف بشرية باهظة، من أجل تثبيت قواعد اشتباك جديدة، تحرم العدو من فرصة الانقضاض على لبنان كما يفعل في غزة.
عند هذه اللحظة، وقع الجميع في حيرة من أمرهم. لكنّ العدو، الذي تبيّن حجم متابعته الدقيقة لما قامت به المقاومة في لبنان خلال 15 عاماً، كان شديد الحذر إزاء فكرة توسيع الحرب. والأمر نفسه ظهر في مواقف الدول الداعمة له في الغرب، وحتى عند بعض العرب. غير أن هذا الفريق وجد في التهويل بالحرب السلاح البديل ضد المقاومة في لبنان، وعاملاً ضاغطاً على بيئتها الاجتماعية والسياسية. ويمكن توثيق مئات التصريحات والتسريبات الخاصة بالحرب الوشيكة والتدهور القائم والمواجهة المدمّرة والواسعة. فيما كانت المعطيات الميدانية تشير إلى العكس، وحتى إن من الإنصاف القول إن العدو الذي تصرّف بجنون غير مسبوق في غزة، كان شديد التعقل في تعامله مع جبهة لبنان، وظل في غالبية الوقت، محترماً لقواعد طرحها حزب الله منذ اليوم الأول، عندما حصر المواجهة بين العسكريين، علماً أنه دفع ثمناً مباشراً وباهظاً جراء «القلق الوجودي»، عندما بادر إلى الإقرار بالحزام الأمني داخل أراضي فلسطين، مرغماً أكثر من مئة ألف مستوطن على النزوح، في سابقة لا تزال تؤرق كل مسؤول سياسي وعسكري وأمني في كيان الاحتلال.
باتت الحاجة ملحّة لأن تفرج المقاومة عن تفاصيل الحرب التقنية والأمنية الضخمة التي تقودها أميركا وأوروبا إلى جانب إسرائيل ضد لبنان وغزة
مع الوقت، بات العدو يشعر بأن الإسناد تحوّل إلى حرب استنزاف لا قدرة له على التعايش معها لفترة طويلة، فقرّر اللجوء إلى خيارات اعتقد بأنها ممكنة ضمن القواعد نفسها، فشنّ عمليات أمنية وعسكرية دفعت بالأمور مرات كثيرة إلى حدود الانفجار الكبير، علماً أن المقاومة، في كل مرة ردّت على جرائم العدو، كانت تظهر استعدادها للدخول في حرب شاملة إذا تطلّب الأمر ذلك، لكنها كانت على الدوام، تقارب الفعل الميداني بما لا يمنح العدو فرصة للقيام بما لا يتناسب مع مصالحها في هذه اللحظة.
طبعاً، هناك مسؤولية كبيرة على المقاومة في لبنان في شرح طبيعة الحرب القائمة الآن. وهناك حاجة لأن تفرج، سريعاً، عن تفاصيل أقسى المعارك الأمنية والتقنية الدائرة، التي تشارك فيها دول بكامل قوتها، وخصوصاً الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا ودول أوروبية أخرى، إلى جانب الوظيفة القذرة لأنظمة الأردن ومصر والإمارات. وهي معركة لا تزال مفتوحة على أفق عسكري – أمني – تكنولوجي مختلف جذرياً عن كل ما واجهه العرب في صراعهم مع إسرائيل. ومن يطّلع على تفاصيل هذه المعركة، سواء في ملاحقة المقاومين في الجنوب وبقية مناطق لبنان، أو ما يتعلق بمساعدة قوات الاحتلال في تجنّب ضربات عسكرية أو مساعدتها في شن هجمات، بما في ذلك ما حصل يوم اغتيال القائد شكر، أو يوم الأحد الماضي، فإن الصورة ستبدو خيالية عند أقزام النظام العسكري الرسمي في العالم العربي وحتى عند دول أوروبية أيضاً.
وبانتظار أن تقرّر المقاومة البوح بتفاصيل هذه المعركة المستمرة، فإن القاعدة التي تتحكّم بعقل أصحاب القرار فيها، هي أن أي حرب مفتوحة، تكون على شكل مواجهة شاملة كما يجري في غزة، لن تثمر نتائج كالتي تتوخّاها المقاومة في لبنان أو حتى في فلسطين، وهو ما دفع بالسيد نصرالله إلى الحديث مبكراً عن الفوز بالنقاط. وفي هذا ما يقودنا إلى الأسئلة الصعبة: من نقاتل، ولأجل ماذا، وكيف نقاتل؟
لهذه الأسئلة أجوبتها العلمية أيضاً. لكنّ الأساس اليوم هو أن فكرة الحرب الواسعة مع العدو، تبقى خياراً قائماً في كل لحظة، ليس من باب الاستعداد فقط، بل من باب أن الفشل الاستراتيجي الذي جعل إسرائيل غير قادرة على حماية نفسها إلا بوجود جيوش الغرب على أراضينا، له ما له من تبعات، ليس على الكيان فقط، بل على كل المنطقة، وعلى تيار المقاومة أيضاً. وربما هناك من قرّر أن يعود بنا إلى وضع عشناه قبل أربعين عاماً، عندما جاءت الجيوش الأميركية والأوروبية إلى بلادنا، ليس لنصرة إسرائيل في حينه، بل لتأمين حصاد حربها الكبيرة التي وصلت إلى بيروت، فيما نحن اليوم، نقف على بوابة فلسطين، والغرب يأتي هذه المرة لمنع تكرار «طوفان الأقصى» بأشكال مختلفة، وبات مضطراً للبحث في سبيل الحفاظ على ما تبقّى من استثماره الخيالي في كيان الاحتلال… وللحديث صلة!