في ظل الكوارث المتلاحقة التي تضرب لبنان، لم يعد التعليم بمنأى عن تداعياتها، فقد القت الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها البلد بظلالها على جميع جوانب الحياة، وعلى رأسها التعليم، حيث بات العبء المالي لتعليم الأبناء هاجسا يؤرق الأسر اللبنانية.
ومع الارتفاع المتسارع وغير المسبوق للأقساط المدرسية في المؤسسات التربوية الخاصة، يجد الأهالي أنفسهم أمام تحدٍ كبير يفوق التوقعات. فما كان يعتبر في الماضي مجرد تكلفة ثابتة، تحول الآن الى التزامات مالية لا تُطاق، مما يزيد من ثقل الضائقة النقدية المتفاقمة محليا.
وفي ظل هذه الظروف الغليظة، باتت نفقات التعليم موضوع الساعة، حيث يواجه الأهالي واقعا قاسيا يفرض عليهم اتخاذ قرارات مصيرية بشأن مستقبل أبنائهم التربوي: من البحث عن خيارات تعليمية أقل تكلفة، إلى التضحية بمستوى المعيشة أو حتى التفكير في مغادرة البلد بحثا عن فرص أفضل، ومع ذلك تبدو الخيارات المتاحة محدودة ومؤلمة.
دفع هذا الوضع العديد من الأسر إلى نقل أبنائهم من التعليم الخاص إلى الرسمي، في محاولة لتخفيف الأعباء المالية. لكن هذه الخطوة لم تأتِ دون مخاوف، فالانتقال إلى المدارس الرسمية قد يتسبب في تراجع نموذج التعليم، الذي اعتاد عليه الطلاب في القطاع الخاص. ويخشى الأهالي مع تزايد الضغط على المدارس الرسمية، التي تعاني في الأساس من نقص في الموارد والإمكانات، أن يؤثر ذلك سلبا في رتبة أولادهم الاكاديمية.
الحديث عن هجرة طلابية غير دقيق!
يوضح نقيب المعلمين في المدارس الخاصة نعمة محفوض لـ “الديار” أن “الادعاء بوجود موجة نزوح من القطاع الخاص إلى الرسمي بسبب ارتفاع الأقساط المدرسية ليس دقيقا، ويُرجع ذلك إلى غياب المدارس الرسمية التي تقدم تعليما ذا درجة رفيعة”.
ويؤكد “أن الحل لا يكمن في خفض الأقساط، إلا إذا توفرت مدارس رسمية ذات جودة عالية، حيث يمكن للأهالي الذين يعانون من ضغوط مالية نقل أبنائهم إلى هذه المدارس. وإذا تأمنت هذه الشروط، سيكون بإمكان الطلاب متابعة تعليمهم في الجامعة اللبنانية، بشرط ان تقدم المؤسسات تعليما جيدا”.
ويكشف عن “أن تدهور التعليم في القطاع الرسمي والجامعة اللبنانية يمثل مشكلة كبيرة، بحيث يرتبط هذا التقهقر باستغلال وزارة التربية في المحاصصات السياسية “التنفيعات”. ووجه محفوض تساؤلاً للأهالي حول غياب لجان الأهل، التي من المفترض أن تكون الصوت المدافع عن مصالحهم، لا سيما في ما يتعلق بتبرير ارتفاع الأقساط المدرسية، حيث يؤكد أن رواتب المعلمين لا تزال تشكل جزءا ضئيلًا من تلك الأقساط”.
ولفت الى “وجود بعض المدارس المحترمة التي بادرت إلى التفاوض مع المعلمين للتخفيف من الضغوط المالية، حيث تم الاتفاق على منح المعلمين 60 بالمئة من راتبهم بالدولار. وللحصول على المبلغ الاجمالي، جمعوا رواتب المعلمين بالدولار وزادوا عليها 35% من حصة المدرسة. وقد اعتمدت هذه المدارس آلية تقسيم التكاليف على عدد الطلاب لتحديد الأقساط المدرسية الجديدة”. وشدد على “ضرورة تحديد الأقساط بالتوافق مع الجهات المعنية، كما ينبغي على لجان الأهل والتفتيش التربوي مراقبة هذا الأمر، وبخاصة في المدارس التي لم تلتزم بهذه الاستراتيجية”.
وسأل محفوض “هل صارت الأقساط المدرسية المشكلة الوحيدة التي ترهق الناس في هذا البلد؟ فأين هم من فاتورة مولدات الكهرباء، والاتصالات، والغلاء الفاحش، والانهيار الاقتصادي”؟ وأشار إلى “أن كل شيء تقريبا عاد إلى سعره القديم على أساس الدولار، باستثناء الأقساط المدرسية”.
وقال: “لا اسعى الى تبرير ارتفاع الأقساط في بعض المدارس، اذ تكمن العقبة الحقيقية في الوضع العام للبلد، حيث تضاعفت الضرائب في موازنة 2024 بنسبة 50 إلى 60 مرة”.
وختم محفوض “لبنان في حالة انهيار، وسط غياب انتخاب رئيس للجمهورية أو وجود حكومة فعالة، مما أدى إلى تفكك إدارات الدولة، وتحول كل مؤسسة تربوية إلى كيان مستقل بذاته. ومع ذلك، تحاول النقابة جاهدة تحصيل جزء من الرواتب القديمة للمعلمين لضمان استمراريتهم في هذه المهنة”.
الأقساط غير قانونية!
من جهتها، اكدت رئيسة “اتحاد لجان الاهل واولياء الأمور” في المدارس الخاصة في لبنان لما الطويل لـ “الديار” ان “الاقساط التي فرضت على الاهل غير قانونية ، حيث لا يجوز قانوناً تحديد القسط قبل دراسة الموازنة من قبل لجنة الاهل، والموافقة عليها بنهاية الفصل الاول من العام الدراسي”.
واكدت ان المسؤولية تقع على وزارة التربية لوضع حد لهذه التجاوزات، وعلى اللجان المعنية اتخاذ الاجراءات القانونية بحق المدارس، لأن هذا يعتبر انتهاكا لحقوق الاهل وتعسفا في استعمال الحق، مما يعني ان هذا الخطأ القانوني يضر بمصلحة الطلاب والاهل. وقد تراوحت الزيادات في اغلبية المدارس التابعة لاتحاد المؤسسات التربوية بين 50% وتجاوزت الـ 120%”.
وأضافت “ان وزارة التربية وجميع النواب معنيون بهذه القضية لأنها تمس كافة شرائح المجتمع ، وفي حال الاستمرار بهذا النهج من قبل معظم المدارس، فستكون نهاية التعليم الخاص، حيث يصبح التدريس حكراً على الأغنياء، خاصة اننا نشهد نزوحا وتسربا كبيرين من الطلاب”. واكدت “ان رفض هذه المؤسسات المصنفة قانوناً كغير ربحية ومعفاة من الضرائب، لأي نوع من التدقيق المالي وتقديم قطع حساب وعدم محاسبتها من قبل المسؤولين، يعد تواطؤا على الشعب ومحاولة لضرب قطاع التعليم في لبنان”.
وختمت “تهدد هذه الارتفاعات العملية التربوية، ولاحظنا ان عددا كبيرا من الأهل بدأ يسعى لحجز مقاعد في المدارس الرسمية، وبشكل خاص بعد انتظام العام الدراسي السابق ونتائج الشهادات الرسمية، التي اعادت ثقة الاهل بالمدارس الرسمية، وعلى وجه الخصوص في المرحلة الثانوية”.
انقلبت الموازين!
من جهته، أوضح رئيس لجنة الأساتذة المتعاقدين في التعليم الأساسي في لبنان الدكتور حسين محمد سعد لـ “الديار” ان “رفع الأقساط في المدارس الخاصة يؤدي الى نزوح من الخاص الى الرسمي. ويعتبر هذا الامر طبيعيا الى حد ما، كما حدث في المؤسسات الاكاديمية الرسمية، التي كانت تعاني قبل سنوات من تعثر وشهدت نزوحا كثيفا”.
وأضاف “تنقلب حاليا كفة الترجيح لصالح التعليم الرسمي بالرغم من كل الصعوبات، وقد تزامنت الفترة التي شهدت تخلّي التلاميذ عن القطاع الرسمي والانتقال الى الخاص مع مرحلة تقلبات سعر صرف الدولار، حيث اعتبرت فئة ان الدفع بالدولار كان سهلا او غير مكلف”.
وأشار الى انه “عندما عاد الدولار الى حجمه الطبيعي في السوق اللبنانية واستقر الاقتصاد الوطني نوعا ما، بدأت هذه المقاييس بالتبدّل او التعادل لصالح القطاع الرسمي”.