الرئيسيةمجتمع ومنوعات

الجنوب «الآن وهنا»: ﺻﺎﻣﺪون ﻗﺮب اﻟﺪﻣﺎر اﻟﻌﻈﻴﻢ… وﻓﻲ ﻳﺪﻧﺎ ﻳﻠﻤﻊ اﻟﺮﻋﺐ!

معرض توثيقي من توقيع فاطمة جمعة وحسن فنيش

رنا علوش – الأخبار
صورٌ ملوّنة ومونوكروميّة بطلها هو الجنوب، ونساؤه وأطفاله ورجاله وشهداؤه. منذ اندلاع «طوفان الأقصى»، انخرط الشريكان فاطمة جمعة وحسن فنيش في الحرب بالأدوات التي يتقنانها: الكاميرا. هكذا، واظبا على جمع الأدلّة وتوثيق المشهد بالصور والفيديوات كي لا تضيع الحقيقة في المستقبل. المعرض المقام حالياً في «ملتقى السفير»، ليس محاولة لإظهار الجنوب كضحيّة، بل يعكس صورة الجنوب الصامد، الذي «يحبّ الحياة»، الذي يحارب بملء إرادته، كلّ من يحاول الاستيلاء على ذرّة واحدة من ترابه

 

بين البيوت المهدّمة والشوارع والأحياء التي فقدت معالمها في البلدات الجنوبيّة اللبنانية الحدوديّة، هناك شباب اختاروا عدم الابتعاد عن المشهد الحربي منذ اندلاع معركة «طوفان الأقصى». لقد قرّروا بملء إرادتهم أن يكونوا جزءاً منه، أن يعايشوه بتفاصيله ويوثّقوه، ليقدّموا الحقيقة براحة ضمير للأجيال اللاحقة. من بين هؤلاء الشباب، المخرجة والمصوّرة فاطمة جمعة وزوجها المعماري والمصوّر حسن فنيش، اللذان افتتحا أخيراً معرضهما «الآن، هنا» في «ملتقى السفير».

«عيتا الشعب» (فاطمة جمعة)

الشهيد سامح أسعد قبل أيّام من استشهاده ـــ «كفركلا» (حسن فنيش)

صورة «مستعمرة المطلّة» مأخوذة من «سهل الخيام» (تصوير حسن فنيش)

بعد وقت قصير على زواجهما، شنّ العدوّ الصهيوني حربه على جنوب لبنان، فقرّر فنيش زيارة قرية كفركلا الحدودية التي يحفظ معالمها عن ظهر قلب. إذ دفعته المسؤولية إلى توثيق ما تراه عيناه من دمار، بواسطة الكاميرا، حتّى أصبح هذا الفعل، عادةً يوميّةً وطبيعية بالنسبة إليه. أمّا زوجته جمعة، فقد دفعها الفضول إلى زيارة النساء الجنوبيات الصامدات في القرى الحدودية. هؤلاء النساء رفضن هجرة منازلهن، ولم يأبهن لترهيب العدو. وجدت جمعة نفسها بينهنّ في تشييع أولادهنّ الشهداء، شاركتهنّ ألم الفقدان، لكن أيضاً التصميم والعناد في وجه القاتل. بعد مدة، وجد الثنائي في حوزتهما، رزمةً من الوثائق التي أخذت شكل صوَر وفيديوهات، فقرّرا مشاركة الجمهور بها في معرضهما، كي لا يغفل اللبنانيون عن الحقيقة التي تحدث «الآن وهنا» في لبنان.
صورٌ ملوّنة ومونوكروميّة، بطلها هو «الجنوب»، ونساؤه وأطفاله ورجاله وشهداؤه. رغم الوجع والمآسي والدمار الذي تحمله هذه الصوَر، إلّا أنّ الجوّ العام الذي يطغى عليها هو الهدوء الذي يولّده دمار الأحياء ومنازلها التي تنتظر إعادة بنائها واستقبال مالكيها من جديد، وصبر المرأة الجنوبيّة التي اعتادت منذ زمن على مشهد الحرب، وتنتظر النصر الآتي حتماً، كالعادة. الصور المعروضة ليست محاولة لإظهار الجنوب كضحيّة، بل تعكس، ومن دون أي مجهود، الجنوب الصامد، الذي يحارب بملء إرادته، كلّ من يحاول الاستيلاء على حبّة واحدة من ترابه. تلتقط الصوَر بعض الشهداء قبل أن يفارقوا الحياة، مثل صورة التقطها فنيش للشهيد سامح أسعد في بلدة «كفركفلا» قبل أيّام قليلة من استشهاده. كما يلتقط صورة أب يحمل طفله الشهيد بعد مجزرة ارتكبها الاحتلال في بلدة «القنطرة». ويوثّق فنيش حقول الزرع حيث المخيال أو «الفزّاعة» كما يسميها أهل الجنوب، ما زالت شامخةً، لتحمي ثمار الحقل، وما زال أصحابها يقصدونها من أجل الحصاد. وهناك صور للأطفال الجنوبيين وهم يسرحون ويمرحون رغم الدمار الذي يحيط بهم. ويستعرض أيضاً، لحظة سقوط غارة على مستعمرة «المطلّة»، كان قد التقطها من «سهل الخيام».

«بليدا» (فاطمة جمعة)

من تشييع الشهيدين محمد حسن قاسم وعبّاس أحمد سرور في «عيتا الشعب» (فاطمة جمعة)

بلدة «حولا» (حسن فنيش)

أمّا فاطمة جمعة، فتصوّر المرأة الجنوبيّة، تارةً في منزلها الذي ترفض أن تهجره رغم إدراكها للخطر المحدق بها، وطوراً في تشييعها للشهيد الذي قد يكون ابنها أو أخاها أو زوجها أو حفيدها… تخبرنا جمعة عن الخلطة الفريدة التي تشكّل بطلات هذه الصوَر، فتستذكر لحظات حُفرت في وجدانها، منها لحظة تشييع أحد الشهداء، حين كانت تصوّر امرأة تبكي الشهيد، وتصرخ من حرقتها، ثمّ نظرت إلى عدسة كاميرا جمعة، ومسحت دموعها، وبدأت تهدد قوّات الاحتلال قائلة «إنت عندك صواريخ بس نحن عنّا رجال». تخصّ جمعة أمّهات الشهداء واللواتي أصبحن شهيدات، بنصٍ كتبته وألصقته على أحد جدران المعرض: «ثمّ أبحث عنها، أعرفها من دون حاجتي إلى أحد أن يدلني عليها، هي التي حملت وحضنت وأطعمت وأشربت، حتّى كبر وصار رجلاً حقّاً، وها هي الآن تحمل وتحضن صورة، تناديه بالعريس وتزغرد. ثمّ أحياناً تكون الشهيدة نفسها بمرتبة أمّ، تارةً أمّ لثلاثة شهداء، وطوراً أمّ شهيد وجدّة آخر، يأتي المهنئون إلى العرس من كلّ حدب وموت، لا تعنيهم قذائف الشمال ولا تثنيهم، تتراقص الأيادي على وقع زغردات اليتامى والأيامى، ثمّ البكاء، وبعد الزغردات، تنظر النساء نحوي بعيون أُخرى، ليبدأن بالتهديد». تؤكد جمعة أنّ هؤلاء النساء، جميعهنّ، لا ينظرن إلى أنفسهنّ كضحايا للحرب، بل يعتبرن أنهنّ جزء منها، ولو كان القرار لهنّ، لسلكن الطريق نفسه الذي يؤمنّ أنّه سيتوّج بالنصر.

صور للأطفال وهم يلعبون وسط الدمار، وأخرى توثّق لحظة سقوط غارة على مستعمرة «المطلّة»

لدى سؤال جمعة عمّا إذا كانت هي وزوجها قد اكتفيا بالوثائق التي جمعاها أم أنّهما مصران على العودة إلى الجنوب وإكمال مسيرة التوثيق، تؤكّد أنّ زوجها حالياً في الجنوب مع كاميرته، وأنّها ستلحق به فور انتهاء المعرض، مشددةً على أنّ الرحلة التي سلكاها، ما زالت طويلة، فهي تنتظر النصر، وعودة الجنوبيين النازحين إلى أراضيهم، وإعادة إعمار كلّ ما هدمته الغارات الصهيونية، وهي تتلهّف إلى توثيق كلّ هذه الأحداث بتفاصيلها. كما أنّها تعمل على إخراج سلسلة أفلام وثائقية قصيرة، محورها النساء الجنوبيات. قد يعتقد بعضهم أنّ الزوجين يحاولان «استغلال» ما يحدث في الجنوب بهدف الشهرة، إلّا أنّ من يزور المعرض، ويتأمّل الصور، ويتحدّث مع المصوّرين، يلتمس من دون عناء، الوفاء الذي يحملانه للجنوب الذي انحدرا منه. هما ببساطة، يريدان أن يكونا «محاربين» في هذه المعركة عبر جمع الأدلة وتوثيق الحقيقة منعاً لتحويرها في المستقبل. أي إنّهما بكل بساطة، يفعلان ما يستطيعان فعله ويقاومان بالطريقة التي يتقنانها. هذا ما قالته فاطمة جمعة لنا، مضيفةً: «أفكّر في أولئك الرجال… صورة الذين لم نرهم، ولا نعرف وجوههم إلّا بعد إتمام مهمّاتهم. ماذا بعد الرؤية والصورة؟ أسأل نفسي إذاً، فيما نشهد شتاتاً أعمق لهول ما رأيناه في غزّة، ما الذي يعقب الرؤية؟ ما العمل المتوجّب علينا فعله بعدما نرى؟ لا أملك الإجابة، لكنني أعلم أنّ الذي يقتصر عمله على فعل الرؤية دون سواها، لا بدّ من أن يعميه المشهد».

* معرض «الآن، هنا»: مستمرّ يومياً ما عدا الأحد – من الساعة التاسعة صباحاً حتّى التاسعة مساءً – «ملتقى السفير» (الحمرا). للاستعلام: 81/857880

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى