بمجرد إعلان المرجعيات القيادية في إيران واليمن وحزب الله عن حتمية الرد، سقط النقاش حول أصل القرار، وما تبقّى ثرثرة فائضة عن حدّها بشأن الكيفية والنوعية والتوقيت، وهي لزوم ملء الوقت الفاصل عن تنفيذ هذه الردود، أو أقله عن أولها. فيما تكثر التحليلات والتعليقات بما يحجب الصورة عن حقيقة الهدف الفعلي للرد.
الثابتة الأكيدة هي أنه لولا تعقّد عملية العدو في غزة لما اتّجه لتنفيذ عملياته في لبنان وإيران واليمن. ومشكلة العدو مع هذه الأطراف أنها لم تترك غزة وحيدة، وأنها مصرّة على إسناد القطاع وأهله ومقاومته. وإذا كانت عقلية الثأر والعقاب ثابتة في عقيدة العدو، فإن تفعيلها مرتبط بلحظة حساسة، وخدمة لهدف ضروري، ما يعني أن إسرائيل تريد من هذه العمليات استثماراً في حربها المفتوحة على غزة، وتريد – قبل أي شيء – دفع محور المقاومة إلى ترك غزة في عزلة تدفعها إلى الكسر الكامل ورفع الراية البيضاء.
في المقابل، تعي قوى المحور أن دورها في هذه المرحلة هدفه خدمة المقاومة في غزة، وأن الضغط الذي تمارسه جبهات الإسناد يهدف إلى تعقيد مهمة العدو في القطاع، وصولاً إلى دفعه لوقف العدوان بصورة كلية، وبالتالي، منع انكسار المقاومة. وتعرف هذه القوى أنها منذ الساعة الأولى لاتخاذها قرار الإسناد المباشر، باتت معرّضة لدفع أثمان متنوعة، وهي تظهر استعداداً لتحمل هذه الأثمان بدرجة أو بأخرى. وقد رسمت لنفسها دائرة لا يمكن أن تقبل بتجاوزها من قبل العدو، ما يعني أنه في حال تجاوزت الكلفة ما هو مقدّر، فإن قوى المقاومة التي لن تبادر مطلقاً إلى وقف إسناد غزة، ستكون مضطرة لتعديل طريقة عملها، مع وجهة لتدفيع العدو ثمناً أكبر من الثمن الذي يدفعه في حرب الاستنزاف القائمة على عدة جبهات.
طبعاً، لا ينبغي إهمال كل العناصر السياسية والنفسية والمعنوية التي تلزم أطراف المحور بالرد على العدو. وهي فعلاً عناصر أساسية، وليست شكلية كما يفترض من لم يقتنعوا بعد بأن القوى العاملة في فلك الفكرة الخمينية لا يمكنها تجاهل شكل وطبيعة العدوان، وليس أصله فقط. وهذا لا ينتقص أو يقلّل من التطور النوعي في عقل قوى المقاومة، ليس فقط على صعيد القدرات وآليات القتال، بل على صعيد الإدارة السياسية أيضاً. وهو ما يقودنا إلى مقاربة ما يجري بطريقة أكثر وضوحاً.
ربما يكون الرد قد بدأ عندما تُقرأ هذه السطور، وهذا لا يؤثّر في أصل الفكرة، إذ تجب الإشارة إلى أن الردود المنويّ القيام بها، دفعة واحدة أو على دفعات، مجتمعة في خطوة واحدة، أو موزّعة بحسب الجبهات، هي ردود تستهدف مجموعة أمور، وترتيب أهدافها منطقياً وواقعياً يقود إلى البحث عن أفضل استثمار لها في معركة الدفاع عن غزة، وإجبار العدو على وقف الحرب.
كذلك، يجب الفصل بين ردّ إيران وردّ حزب الله وردّ «أنصار الله». ويجب إضافة أن حماس وبقية الفصائل الفلسطينية معنية أيضاً بالرد، سواء من داخل فلسطين أو من خارجها. والفصل سببه أن هناك ضوابط تتحكم بالرد الإيراني، كونه يتصل بعقاب على جريمة موضعية ومحددة، وهي ضوابط تقود إلى تقدير قوي بأن المدنيين في الكيان ليسوا هدفاً بحد ذاتهم، وأن فعالية الرد، تكمن في الوصول إلى أهداف تتصل بدائرة القرار في كيان العدو، وأدواته التنفيذية ذات البعد الاستراتيجي.
أما ضوابط حزب الله، فمختلفة بعض الشيء. صحيح، أن هامشه كبير بفعل طبيعة الاغتيال الذي نُفذ في الضاحية (اقرأ في العاصمة)، وبفعل أن العدو لم يأخذ في الاعتبار وجود المدنيين، وأنه تعمّد توجيه رسالة كبيرة إلى المقاومة. لكن، وإن كان بمقدور المقاومة اختيار أهداف، فيمكن أن تكون ساحتها في تل أبيب نفسها، وقد تصيب مدنيين على هامش الهدف الرئيسي، إلا أن الفعالية الجدية تكمن في أن تصيب الأهداف مركزاً بارزاً للجسم الذي اتخذ القرار وشارك في تنفيذه.
وبخلاف إيران وحزب الله، لا تخضع حركة «أنصار الله» للضوابط نفسها. فالعدو تعمّد ضرب منشأة مدنية في ميناء الحديدة، وهو يعرف مسبقاً أن مدنيين سيُقتلون أو يُجرحون، وتباهى بتنفيذه عملية عسكرية نوعية. وإذا كان العدو يتذرع بأن مُسيّرة «يافا» أصابت هدفاً مدنياً في تل أبيب، وتسببت بمقتل مستوطن لم يكن في الخدمة العسكرية، فإن آلية عمل وتفكير وتنفيذ «أنصار الله» تجعل من الممكن الاعتقاد، أو حتى المراهنة، على توجيه رد يصيب منشآت حيوية للعدو، سواء مدنية أو عسكرية، ولا فرق إن تسبب الرد بمقتل عسكريين أو مستوطنين.
لكن، في جوهر ردود أطراف المحور، هناك من ينظر إلى تأثيرها على ما يجري في قطاع غزة. وحتى عندما تُطرح احتمالية تدحرج الأمور نحو مواجهة واسعة، فإن من يدرس الردود، يفكر أيضاً في تأثير توسّع المواجهة على أصل الهدف المتمثل في وقف العدوان على غزة. وبالتالي، فإن ما يفترض بالعدو أن ينتظره، إلى جانب الردود نفسها، هو الرسالة السياسية الأساسية، التي تقول إن قرار الإسناد قائم ولا عودة عنه، مهما كانت الأثمان، وهي أثمان تُدفع يومياً جراء الحرب على الجبهة مع لبنان، أو بالحصار والحرب الأميركية على اليمن، أو الضغوط والعمليات الأمنية في إيران، وصولاً إلى القصف المركّز في العراق وسوريا. كما أن قرار الإسناد قائم حتى لو انتقلت المواجهة نحو حرب واسعة. وفي هذه النقطة، كان يفترض بالعدو، قبل أن يتخذ قراره بالعمليات في لبنان واليمن وإيران، أن يدرك أنه ليس هناك أي احتمال، على الإطلاق، لأن يترك المحور غزة وحدها، وأن الإسناد هو الخيار الوحيد، وليس هناك أي خيار آخر على الإطلاق.
وبالتالي، إذا كان العدو يريد تهديد قوى المحور برفع مستوى العدوان، رداً على استمرار جبهات الإسناد، فربما كان من الأجدى، أن يقتنع بأن خيار الإسناد لا فكاك منه. وبالتالي، فإن الردود المرتقبة ستعيد النقاش إلى النقطة الصفر: من يوقف مجانين إسرائيل عند حدّهم، ويقدر على وقف عدوانهم على غزة؟
إضافة إلى ذلك، ربما فات العدوَّ، وداعميه من الأميركيين والغربيين، أن النقاش لا يقف فقط عند الحسابات الدقيقة. بل ثمة عامل إضافي يضغط على محور المقاومة هو عامل الجمهور. هذا الجمهور لا يريد الحرب أساساً، وهو معجب بما يُطلق عليه «العقل البارد» لقادة المحور. كما أنه لا يدعم حرباً مفتوحة من دون أفق واضح. لكن الصحيح أكثر وأكثر، أن لهذا الجمهور صوته الذي يهدر طوال الوقت، ويظهر في عيون وفلتات اللسان، وهو نفسه صوت أهل غزة، الذين يحق لهم ما لا يحق لغيرهم، في القول والفعل، لكنه صوت ثقله كبير، ووقعه أقوى من صوت القذائف، هو صوت يريد الرد ليس فقط لحسابات سياسية صلبة، بل للانتقام، وإصابة العدو في عنقه، ليس فقط لأن العدو تجرّأ أكثر من اللازم، بل لأنه لم يعد ينفع معه أي علاج آخر خارج الميدان.
غير ذلك، هي أحداث ستحصل، الآن وفي أي وقت، وقد لا يكون لها شكلها الواحد، أو مداها الزمني المُقيّد. وهي أحداث يمكن أن تفتح الأبواب على ما هو أكثر خطورة. ومن يناقش في أصل الرد، عليه أن يعيد ترتيب أوراقه، سواء أكان طرفاً فاعلاً، كما هي حال الغرب بقيادة أميركا، أو شريكاً مقنّعاً، كما هي حال النظام الرسمي العربي، أو حفنة من العملاء كما هي حال حكومات وقوى لبنانية وفلسطينية وعربية وإسلامية. والنصيحة الأفضل لكل هؤلاء أن يفكروا بأمر واحد: أوقفوا الحرب على غزة، أو فكّروا في كيفية إبادة محور المقاومة بكل دوله وقواه وجمهوره!
====