رغم اعترافه الأوّلي بالعمالة للعدو ثم تراجعه عن الاعتراف، خلص المحقّقون في فرع المعلومات من التحقيق مع العضو السابق في حركة حماس، الفلسطيني نور الدين أبو معزه، إلى صعوبة أن يكون الأخير ضحية عملية استدراج للموساد، وإلى أنه كان على دراية بأنه يعمل لمصلحة العدو الإسرائيلي. فقد بيّن التحليل التقني لهاتفه الذي احتوى على عدد كبير من الكتب الإلكترونية حول الموساد الإسرائيلي وأساليبه في تجنيد عملائه وعملياته التجسسية، أن لديه اطّلاعاً واسعاً على هذه الأساليب. كما لاحظ المحقّقون من عبارات الازدراء التي استخدمها أثناء التحقيق في حق حماس، أنه يكنّ كرهاً شديداً للحركة ومسؤوليها بسبب خلافاته مع المسؤولين المباشرين عنه، وأنه كان يرغب بشدة بمغادرة غزة، ما قاده بإرادته إلى براثن الاستخبارات الإسرائيلية التي زوّدها بتقارير أمنية، طمعاً بمكاسب مادية وبمساعدته على الخروج من القطاع. ويعتقد المحقّقون أن أبو معزه، الذي محا محادثات عن هاتفه، يخفي معلومات أكثر أهمية زوّد بها مشغّليه الإسرائيليين، وساعدتهم على إلحاق أضرار بالبنى التحتية لحركة حماس وقياداتها. وكانت رحلة عمالة أبو معزه بدأت في قطاع غزة عام 2019، واستمر بعد سفره إلى تركيا، حيث خدعت الاستخبارات الإسرائيلية نظيرتها التركية بتسليمها ملفاً حول نشاطه في تركيا من أجل ترحيله إلى لبنان، حيث أراد له مشغّلوه أن يكون. «الأخبار» تنشر في ما يأتي محاضر التحقيقات مع الفلسطيني أبو معزه الذي ادّعت عليه القاضية نجاة أبو شقرا، طالبة إنزال عقوبة الأشغال الشاقة المؤقّتة بحقّه
في تموز العام الماضي، أوقف فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي الفلسطيني نور الدين أبو المعزة (مواليد 1993 – معروف بخليل أبو المعزة) في منطقة دلاعة في صيدا للاشتباه بتعامله مع العدو الإسرائيلي، بعد وضعه قيد المراقبة لتواصله مع حساب إلكتروني يستخدمه الموساد الإسرائيلي. تردّد يومها أن الموقوف الذي يقيم في صيدا منذ قدومه من الأراضي الفلسطينية عام 2020، «كادر» في الجناح العسكري لحركة حماس، إذ عُثر في حوزته على جواز سفر أحمر خاص بالحركة صالح لغاية 2025، وبطاقة انتساب منتهية الصلاحية إلى «كتائب الشهيد عز الدين القسّام»، قبل أن ينفي مسؤول الضفة الغربية في حركة «حماس» يومها، الشهيد صالح العاروري، أن يكون الموقوف كادراً في الحركة، أو أن تكون له علاقة بأي عمل عسكري أو أمني فيها، مشيراً إلى أنه كان مجنّداً في «القسّام»، قبل طرده للاشتباه في تورطه في قضايا مالية، ما ولّد نقمة لديه استغلّها جهاز الشاباك الإسرائيلي لتجنيده». علماً أن أبو المعزة من عائلة مناصرة للمقاومة، إذ إن والده رجل دين شغل منصب مدير قسم الوعظ والإرشاد في مديرية أوقاف غزة، ووالدته تُدرّس مادة التربية الإسلامية، فيما يعمل أحد أشقائه مديراً لمكتب الخدمات الطبية العسكرية في غزة.
في التحقيق معه لدى فرع المعلومات، قال أبو المعزة إنه كان يقيم في غزة، وعمل بين عامي 2016 و2019 في مجال الإعلام والتسويق وبيع الصور والفيديوهات لوسائل إعلام عالمية لا تملك فرق عمل لتغطية انطلاق مسيرات العودة على حدود القطاع. وأضاف أنّه انضمّ إلى حركة حماس بعدما زكّاه صديقه الأسير المحرر رمزي العكّ لدى قادة الحركة، وكان يلقي دروساً ومحاضرات دينية، مشيراً إلى أنه عمل بين عامَي 2016 و2017 في صفوف «قوّة حماة الثغور» التي كانت مهمتها منع أي محاولات تسلل أو تخريب عبر مداخل قطاع غزة أو إطلاق صواريخ خارج الإجماع الوطني حينها، كما عمل في مجال حفر الأنفاق.
بين بداية 2019 وحزيران من العام نفسه، كُلّف بتجنيد عناصر عبر «الفايسبوك» للعمل في الضفة الغربية. وكانت مهمته مراقبة حسابات أشخاص يزكّيهم أحد المكلّفين من حماس في الضفة وإجراء التحريات اللازمة عنهم. وبعد إخضاع المنوي تجنيده لفحص مبدئي، كان يُزوَّد بحساب يتواصل معه أبو المعزة من خلاله، بعد تدريبه على التواصل بشكل مشفّر عبر نظام تشغيل وتطبيقات خاصة للدردشة. وبعد شهرين من التواصل، يُعدّ أبو المعزة تقريراً يقيّم فيه المجنّد، ويرفعه إلى قيادة الحركة لتحديد نوع العمل المقاوم الذي يمكن أن يُكلّف الأخير القيام به في الأراضي المحتلة، لينتهي دوره هنا.
لاحظ المحقّقون من عبارات الازدراء التي استخدمها أنه يكنّ كرهاً شديداً لحركة حماس ومسؤوليها
وأضاف أنه في حزيران 2019، قرّرت قيادة حماس إرساله إلى تركيا لمتابعة عمله في التجنيد، وقد غادر عبر معبر رفح بشكل قانوني. وفي تركيا، عمل في شركة «لوركا» للإعلام كغطاء لنشاطه في تجنيد عناصر لمصلحة حماس من بين الفلسطينيين المقيمين هناك. وفي تموز من العام نفسه، تبلّغ من قياديين في حماس أن الاستخبارات الإسرائيلية طلبت من نظيرتها التركية ترحيله، بعد توقيف الشاباك شخصاً في الضفة اشترى سلاحاً من عميل إسرائيلي، وتبيّن بالتحقيق معه أن أبو المعزة جنّده من تركيا. أخفقت محاولات الحركة لدى السلطات التركية لعدم تنفيذ القرار، فغادر في تشرين الأول إلى لبنان بعدما خُيّر بينه وبين إندونيسيا وبين العودة إلى غزة. وصل إلى لبنان منتصف تشرين الأول 2020، وأقام لشهرين في مركز تابع لحماس في الضاحية الجنوبية قبل أن ينتقل إلى صيدا، مستخدماً اسم «أنس».
منتصف عام 2021، كُلّف بالعمل في المجال التربوي، وإعطاء دورات دينية وفكرية لعناصر في مساجد تابعة لحركة حماس والجماعة الإسلامية في مختلف المحافظات اللبنانية، لقاء أجر شهري، وكان يلتقي شهرياً عدداً من مسؤولي الحركة، ويشارك في اجتماعات طارئة في ضوء أيّ مستجدات أمنية أو حزبية. وأضاف أنّه بحكم عمله شارك في اجتماعات في المربع الأمني في الضاحية الجنوبية وفي مركز تمثيل الحركة قرب طريق المطار أو في مسجد الإمام علي في الفوّار في صيدا. وعدّد بعض مسؤولي الحركة الذين كان يلتقيهم مع الصفات التي يعرفهم بها، من بينهم ممثل حماس أحمد عبد الهادي ونائبه عصام خشان ومسؤول العلاقات الدولية مسؤول ملف الشورى في الساحة اللبنانية أسامة حمدان.
عن بدايات تواصله مع الإسرائيليين، قال إنه أثناء وجوده في قطاع غزة، عام 2019، تلقّى طلب صداقة عبر «فايسبوك» من حساب يحمل اسم «شوقي»، عليه صورة للأخير مع زوجة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان. وأضاف أبو المعزة أن حسابه يظهر بوضوح انتماءه إلى حماس وأنّ له مسؤولية فيها، مشيراً إلى أن «شوقي» تحدّث معه كتابةً بالعربية عبر تطبيق «ماسنجر»، وعرّف عن نفسه بأنه فلسطيني من قطاع غزة، ويقيم في أنقرة لإكمال دراساته العليا. توطّدت العلاقات بينهما، وكان التواصل بمعدل مرة أو مرتين كل أسبوعين، قبل أن يبدآ التواصل عبر «واتساب». بعد نحو شهر، أبلغه «شوقي» بأن صديقاً فلسطينياً له يدعى «سليمان»، يقيم في ألمانيا، وهو ناشط في مجال حقوق الإنسان ويعمل في الإعلام، وأنّ باستطاعته مساعدته في إيجاد عمل في مجال الإعلام. وبعدما زوّد «شوقي» صديقه «سليمان» برقم أبو المعزة، تلقّى الأخير رسالة خطية من «سليمان» عبر «واتساب»، يُعرّف فيها عن نفسه، قبل أن يتصل به «سليمان» ويتحدث معه بلهجة فلسطينية ركيكة ويسأله عن الأوضاع السياسية في الشرق الأوسط وعن الوضع الاقتصادي في قطاع غزة، فردّ بأنّ الوضع صعب بسبب الحصار وتدنّي قيمة الرواتب. كما سأله عن الوضع الأمني والسياسي والاجتماعي فيه، فردّ بأنّ سكان القطاع يشعرون بغضب بسبب تفرّد حماس بالحكم. ولدى سؤال «سليمان» إياه عن احتمال حصول أي تصعيد، ردّ عليه بأنّ التصعيد «وارد، ومؤكد بأنه سيكون بقيادة حماس، وستُشارك فيه فصائل أخرى كالجهاد الإسلامي وألوية الناصر». وقد وعده «سليمان» بتأمين عمل له في الخارج وطلب منه إعداد سيرة ذاتية، ففعل وأرسلها إليه عبر «واتساب». عندها طلب منه إعداد تقرير صحافي عن الوضع الأمني في قطاع غزة ومدى سيطرة حماس على بقية الفصائل وإمكانية حصول تدهور في الوضع الأمني وتحديد الفصائل التي قد تشارك حماس في أيّ تصعيد أمني، ففعل وأرسل التقرير عبر «واتساب» إلى سليمان الذي أرسل اليه مئة دولار في المقابل. وأقرّ أبو المعزة بأنه شعر من خلال طلبات «سليمان» وأسئلته بأنّ الأخير يحاول الاستفادة من منصبه في حركة حماس للحصول على معلومات استخبارية عن قطاع غزة وعن الحركة، وأيقن أنّ «سليمان» تابع للاستخبارات الإسرائيلية. لكنه رغم ذلك، فقد واصل التواصل معه من دون أن يعلم قيادة الحركة بالأمر، ولا سيما أنّه كان على خلاف مع مسؤوليه. لاحقاً، تواصل «سليمان» معه، وسأله عن حراك «بدنا نعيش» ومدى فاعليته، فأعلمه أنّ الحراك مطلبي مدني، لكن له خلفية أمنية، وهو مدعوم من الاحتلال ومن السلطة الفلسطينية لإرباك الوضع الأمني في قطاع غزة وإسقاط حكم حماس. وأكّد له أنّ الحراك لن يتمكن من إسقاط حكم حماس لأنّها تحكم قبضتها على القطاع وتعمل على قمع الحراك وتمنع تغطيته إعلامياً. وزوّد «سليمان» بأسماء ناشطين بارزين في الحراك مثل محمد التلولي وشكري أبو عون وعامر بعلوشة.
وأبلغ أبو المعزة المحقّقين أنه أراد الخروج من قطاع غزة بسبب الخلافات بينه وبين المسؤولين عنه في حماس، وليتمكن من التواصل مع «سليمان» بسهولة، ولعلمه أنّ افتضاح أمر تواصله مع الإسرائيليين ستكون له عواقب وخيمة في القطاع. وأضاف أنه سعى لاحقاً للزواج من فتاة تركية ليؤمّن إقامة دائمة في تركيا للتخفيف من عواقب مساءلته في حال افتضاح أمره. وبما أن حماس لا تسمح لعناصرها بمغادرة قطاع غزة من دون إذن، لجأ إلى أحد قياديّي الحركة الذي ساعده في نيل الإذن بعد دفع 1500 دولار لعناصر في المخابرات المصرية. أعلم «سليمان» بأنه سيسافر إلى تركيا عبر معبر رفح، فأبلغه الأخير بأنه سيلتقيه هو أو أحد من قبله في مصر، لتسليمه 1500 دولار. بعد وصوله إلى مصر، اختار أن يذهب إلى المطار والسفر مباشرة خشية انكشاف أمر لقائه بـ«سليمان»، وأبلغ الأخير بأن السلطات المصرية لم تسمح له بالبقاء.
في تركيا، بقي على تواصل مع «سليمان» الذي طلب منه معلومات عن الفلسطينيين المقيمين هناك والمناطق التي يتواجدون فيها وسبب اختيارهم لها ومستوياتهم العلمية ومجالات أعمالهم وتخصّصات الطلاب منهم وأسماء الجامعات التي يرتادونها والجمعيات التي تساعدهم في تغطية تكاليف دراستهم. وبالفعل زوّده أبو المعزة بعناوين مقرات «جمعية طلبة فلسطين» في تركيا وأسماء القيّمين عليها ومصادر تمويلها لقاء مبالغ مالية.
وبيّن التحليل الفني لهاتف أبو المعزة أنّه محا محادثات مع مستخدم رقم يبدأ بالرمز +49 محفّظ باسم «سليمان ألمانيا». وهو أبلغ المحقّقين بأنه بعد وصوله إلى تركيا، طلب من صديق له كان قادماً من غزة إلى تركيا، أن يحضر إليه هاتفه الذي تركه في غزة بعد محو كل محتوياته. وأبلغ والدته بأن الهاتف يتضمّن معلومات أمنية وعسكرية ناتجة من عمله مع حركة حماس وكتائب القسام، كما قال لها إنّه في حال تمكّن من السفر إلى أستراليا فسيقول للسلطات إنّه «مؤمن بالسلام مع إسرائيل».
غير أن أبو المعزة تراجع في التحقيق الاستنطاقي عن اعترافاته التي أدلى بها أمام محقّقي فرع المعلومات، وزعم أن «شوقي» شاب فلسطيني أرسل له طلب صداقة عبر فايسبوك، وبعدما توطّدت الصداقة بينهما أبلغه أبو المعزة بأنه يريد السفر خارج غزة، فعرض «شوقي» تعريفه على صديق فلسطيني يدعى «سليمان» يقيم في ألمانيا يمكن أن يساعده في تأمين عمل في مجال الإعلام. وقال إنّه وثق بـ«شوقي» بعدما تحدث إليه وسمع لهجته الفلسطينية، وإنّ «سليمان» تواصل معه وطلب منه إعداد تقرير عن الحالة الاقتصادية الاجتماعية في قطاع غزة كمقدّمة لتأمين عمل له. وبعدما سافر إلى تركيا، تواصل معه سليمان وأرسل إليه 150 دولاراً بدل أتعابه. عندها، انتبه إلى أنّ التحويل وارد من صربيا وباسم مختلف. وفي الفترة عينها، تواصل معه أحد أصدقائه وأعلمه أنّ «شوقي» يستخدم حساباً وهمياً على «فايسبوك». عندها أيقن بأنّ المذكورين تابعان للموساد الإسرائيلي لأنّ هذا هو أسلوب الموساد في العمل، وهو يعرف ذلك بحكم خبرته كأحد القادة الميدانيين في حركة حماس. لذلك، حظر كلاً من «شوقي» و«سليمان» على «فايسبوك» و«واتساب»، وأقفل الهاتف الذي كان يستخدمه. وأكّد أنه رُحّل من تركيا بطلب من الاستخبارات الإسرائيلية التي ادّعت لدى الحكومة التركية بأنّه يخطط للقيام بأعمال إرهابية في فلسطين، وأنه اختار لبنان وجهة له كونه «أقرب إلى فلسطين وفيه بيئة حاضنة للمقاومة وقسم كبير من الشعب الفلسطيني». ونفى أن يكون قد أقدم، خلال وجوده في لبنان، على مراقبة أي مراكز أمنية أو عسكرية أو أخرى تابعة للمقاومة، مشدّداً على أنه يعتبر نفسه «مجاهداً ومقاوماً أمضى 17 عاماً في العمل المقاوم»، وأنه «لا يُفرط في ثلاثة أمور: دينه ووطنه وعرضه». أما عن رغبته بمحو هاتفه الذي أخبر والدته أنّ فيه معلومات أمنية وتحطيمه بعد فراغه من استعادة الداتا، فذكر أنّه كان يقصد بالمعلومات الأمنية كل تاريخه الأمني والعسكري مع حركة حماس.
ورغم تراجعه عن إفادته، وهذا حال معظم الموقوفين، ادّعت القاضية نجاة أبو شقرا على أبو المعزة بجرم «التعامل مع العدو الإسرائيلي وهو على بيّنة من أمره»، وطلبت إنزال عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة بحقّه.