يتحدّى أبناء بلدة رميش الجنوبية الحرب بزراعة التبغ، لم تثنِهم القذائف والصواريخ عن بدء زراعة شتلة الصمود، فقد قرّر المزارع جورج عبدوش أن يطلق العنان لموسم التبغ، غير آبه بالحرب الدائرة، جُلّ ما فكّر فيه أن لا يخسر الموسم الذي يعتاش منه، أو يضيّع عليه تعبه وما يدر عليه الموسم سنوياً.
تكاد تكون رميش البلدة الأولى في جنوب لبنان في زراعة التبغ، تنتج سنوياً ما يقرب من 400 ألف طن تدرّ حوالى 350 مليون دولار على 800 مزارع يتّكلون على هذه الشتلة في معيشتهم.
تغاضى جورج نسبياً عن الغبن الذي لحق به وبكل مزارعي التبغ، جرّاء الأسعار المجحفة التي وضعتها شركة الريجي والتي لم تتخطَ الـ6 دولارات للكيلو الواحد، ومضى إلى حقول التبغ الذي يزرعها سنوياً، وبدأ يحضرها تمهيداً لبدء غرس شتول التبغ في آذار المقبل. كان يزرع قبل الحرب 80 دونماً، غالبيتها تقع عند الحدود مباشرة مع فلسطين المحتلة، هذا الرقم، قد يتراجع كثيراً هذا العام في ما لو طال أمد الحرب.
إلا أن جورج بذر التبغ في مساكب في الحقول المنتشرة بين المنازل، معلناً إنطلاق الموسم «مزارعو رميش هم الوحيدون اليوم بين قرى الحدود الجنوبية الذين بدأوا في زراعة الموسم»، وأكثر يقول: «بذزنا كمية كبيرة، لعلّ الحرب انتهت ونعطي جيراننا من الشتول».
لم يترك جورج رميش، دفعته شتلة «الصمود» للبقاء فيها، لأنها مصدر رزقه الوحيد، جرّب كثيراً من الزراعات الأخرى كالقمح والبقوليات والخضار، لكنها فشلت بسبب عدم توفر المياه، فقرر البقاء على الشتلة المرّة لأنها بعلية، لا تحتاج للمياه. والسبب الآخر الذي دفعه للبقاء في رميش أن كلفة النزوح باهظة وهي فوق قدرته.
تكاد لا تخفت أصوات القصف طيلة النهار، فالغارات تتوالى يومياً على البلدات المجاورة من عيتا الشعب الى مارون الراس ويارون وعيترون وغيرها، حتى البلدة نفسها لم تسلم من القصف، ومع ذلك، مضى فادي العبدوش إلى حقول التبغ المحاذية للمنازل في البلدة لأنه كما يقول: «إذا لم نزرع اليوم راح الموسم علينا، نتحدّى القصف والحرب، لنهيئ الحقول للزراعة». يزرع فادي سنوياً بحدود الـ30 دونماً، تنتج سنوياً ما يقرب من 30 ألف دولار، بحسبه: «إذا راح الموسم من يعوّض علينا، اليوم لا يوجد من يسأل من الأحزاب والدولة وهيئات الاغاثة، هل اذا تركنا أرضنا سيسألون؟». يملك فادي تجربة مرّة في التعويض، بحسبه في «حرب تموز 2006 تم ترقيم المنازل تمهيداً للتعويض عليها، غير أنّ شيئاً لم يحصل، معظم المنازل متصدعة تدلف مياه في الشتاء»، وهو ما يدفعه للتأكيد أن «لا تعويض حالياً سيصل للناس، لذا فضلت أن ابقى وأزرع لأضمن حياة أولادي».
دفع الخوف من فقدان الموسم مزارعي التبغ في رميش للبدء في الزراعة، فهؤلاء يعتمدون على هذه الشتلة في رفدهم بالمال، لا عمل آخر لهم، وهو ما دفعهم للزراعة. ما زال نصف سكان البلدة تقريباً في رميش، وتحديداً من المزارعين، في حين نزح من يملك منزلاً في بيروت. بالطبع، يواجه هؤلاء ظروفاً صعبة اقتصادية بسبب الحرب وتعذر وصول الكثير من الموارد الحياتية بسبب خطورة الطريق، غير أن جورج يقول: «يضطر الباعة للذهاب إلى تبنين أو مجدل سلم لتسلم البضاعة، لأن الموزع يخاف خطورة الطريق».
مما لا شكّ فيه أن زراعة التبغ تعد الركيزة الاقتصادية لنسبة واسعة من أهالي رميش، ويتمسك أهلها بأرضهم، رغم ما يعانون منه من أهمال واسع من قبل الدولة للقطاع الزراعي، وفق ما يشير اليه رئيس بلدية رميش السابق رشيد الحاج، لا يتوقف هنا بل يقول: «بدلاً من تشجيع الزراعة والنهوض بها كونها قطاعاً انتاجياً للدولة أهملته وغضّت الطرف عن دعم المزارعين، هؤلاء لا ضمان ولا حقوق لهم، يتحملون كل الأعباء، واليوم يواجهون خطر خسارتهم الزراعة بسبب الحرب، ولم يسأل أحد عنهم». تبعاً للحاج «الوظائف لا تعطي إنتاجاً، عكس المزارع الذي ينتج ويبني دولة».
ما يخشاه الحاج هو «تخلي المزارعين عن الأرض، وبيعها بحثاً عن الأفضل، حينها تفرغ رميش من سكانها، فالأرض هي مصدر الصمود والبقاء»، ويضرب مثلاً ما حصل في عين ابل اذ يقول: «كانت عين ابل توازي مرتين رميش، غير أن أهلها باعوا أرضهم وهاجروا، واليوم هي شبه فارغة»، لذا المطلوب وفق الحاج «تشجيع الزراعة ودعمها وإعطاء المزارع حقوقه كي يعيش بكرامة، لأن الاجحاف بحق هذا القطاع يقضي عليه». ويرى الحاج أنّ المفروض رفع سعر كيلو التبغ ليصل الى حدود 8 دولارات، كي يعطى المزارع حقه وتعبه، وتبقى شتلة التبغ صامدة.
يواجه قطاع التبغ اليوم أزمة حقيقية، فمزارعو التبغ معظمهم نازحون، وحدهم مزارعو رميش أطلقوا صافرة انطلاق الموسم، واذا توقف القطاع، سينعكس الأمر سلباً على هؤلاء، لأنّ الجزء الأكبر من سكان تلك القرى هم مزارعو تبغ، ورغم كل الاجحاف بسبب الأسعار، يحافظ المزارعون على شتلة التبغ لأنّ لا بديل لهم عنها، فهل تعمل الريجي على رفع الغبن عنهم وتحسّن الأسعار؟ أم ستكون هي والحرب عليهم؟!