نسفت لجنة المال والموازنة، الموازنةَ التي أعدّتها وزارة المال واعتمدتها الحكومة، ما أطاح بأبرز مسؤوليات وزير المالية المتمثّلة بإعداد موازنة البلاد، علماً أن خليل لم يلعب منذ تولّيه الوزارة أي دور جوهري في إطار الإصلاحات المطلوبة على الصعيد المالي أو الاقتصادي أو النقدي بل اكتفى بدور هامشيّ.
قدّم وزير المال مشروع موازنة بعجز، ثم لاحقاً وفجأة تحوّل عجز الموازنة الى فائض بعد تدقيق وزارة المالية بإيرادات الضريبة على القيمة المضافة ليصبح عند 320 ألف مليار ليرة بدلاً من 277 ألف مليار. ونتيجة لذلك، تحوّل العجز المتوقع إلى فائض (نظري) بقيمة 25 ألف مليار ليرة! فالموازنة أغفلت على سبيل المثال كلفة خدمة الدين العام بعد توقف لبنان عن السداد منذ تخلّفه في 2020، مع الإشارة الى أن أبرز نفقات الموازنات السابقة لطالما كانت كناية عن رواتب وأجور (35% من نفقات الموازنة) وخدمة الدين العام التي كانت تشكّل 35% وتغطية عجز الكهرباء (11% من نفقات الموازنة)!
أمّا اليوم مع توقّف الإنفاق على خدمة الدين العام وفي ظلّ عدم تصحيح الأجور لتواكب نسب التضخم بل بنسبة طفيفة لا تذكر وتوقّف تغطية عجز الكهرباء، فمن الطبيعي أن تتقلّص نفقات الموازنة بنسبة كبيرة ولو أن النفقات الأخرى باتت تحتسب وفقاً لسعر الصرف الحالي.
بالإضافة الى ذلك، فإن حجم الإيرادات الضريبية المقدّر في مشروع الموازنة يقلّ كثيراً عن التقديرات الواقعية التي تثبتها إيرادات الجمارك في 2023 فقط، ما سيجعل أيضاً موضوع عجز الموازنة غير واقعي نظراً الى أن الموازنة لم تشمل سلفات الخزينة الممنوحة من قبل الحكومة في السابق من خارج الموازنة.
في موازاة ذلك، يغيب الحديث أيضاً عن ودائع الدولة لدى مصرف لبنان والتي تفوق 175 تريليون ليرة في الحساب 36 في مصرف لبنان، والتي تذكّر أن الدولة ليست فعلياً بحاجة الى إيرادات إضافية لتغطية نفقاتها التشغيلية إذا ما استطاعت استخدام تلك الودائع التي يرفض مصرف لبنان التحويل منها الى الدولار بسبب تأثير ذلك على سعر الصرف في السوق، كما يراقب بصرامة الصرف الحكومي بالليرة وبتقطير أحياناً خوفاً أيضاً من زيادة الكتلة النقدية بالتداول.
إنعدام الدّقة
في هذا الإطار، اعتبر رئيس الجمعية اللبنانية الاقتصادية منير راشد أن أرقام مشروع الموازنة الذي قدّمته الحكومة غير دقيقة ولا يمكن التأكّد من صحّة تلك الأرقام خصوصاً أن الإيرادات التي يتمّ إيداعها لدى مصرف لبنان لا تشكّل مجمل الإيرادات المحصّلة، بل هي ما يتبقّى منها بعد تسديد مجمل النفقات. وأشار الى أن أرقام النفقات أيضاً غير صحيحة لأنها لا تشمل جزءاً كبيراً من النفقات المتوجّبة على الدولة والتي تتخلّف عن سدادها، أبرزها خدمة الدين العام، حصة الدولة في دعم الضمان الاجتماعي (25%) بدليل أن متوجباتها وصلت الى 2 مليار دولار قبل الأزمة، والإنفاق على صيانة مختلف مرافق الدولة، بالإضافة الى سلفات الخزينة التي تبلغ حوالي 80 ألف مليار ليرة! وركّز راشد على أن أي فائض قد يسجّل في مشروع الموازنة سيكون وهميّاً، لأن موازنة الدولة يجب أن تشمل كلفة خدمة الدين العام حتّى لو كانت الدولة متوقفة عن السداد، حيث من المفترض أن تتضمن النفقات كلفة الفوائد على الدين العام والمقدّرة بـ1,6 مليار دولار في حال تم تسديد 5% فوائد على سندات اليوروبوندز (32 مليار دولار). وبالتالي سيبلغ العجز في الموازنة 100 ألف مليار ليرة(1.1 مليار دولار) بدلاً من صفر كما هو حالياً بعد تعديلات لجنة المال والموازنة. معتبراً أن «هذا ما يجب أن يحصل وفقاً لعملية المحاسبة المالية المتّبعة من قبل صندوق النقد الدولي، حيث تضاف كلفة الفوائد على الدين العام الى النفقات، ويضاف تمويلها على شكل متأخرات». وختم راشد أن إقرار موازنة من دون مراعاة لخدمة الدين العام التي بلغت متأخراتها حوالي 10 مليارات دولار، هو دليل على عدم وجود نيّة للإصلاح الجدّي ومواصلة السير بأسلوب الفوضى السائد منذ اندلاع الأزمة بدليل عدم التوافق لغاية اليوم مع الدائنين الأجانب أو المحليين، واعتماد أرقام غير دقيقة وعشوائية للنفقات والإيرادات.
عدّة متغيّرات
من جهته، أوضح النائب مارك ضوّ أنه عندما طلبت لجنة المال والموازنة من وزارة المالية كشوفات عن تقديرات حجم الإيرادات، أرسلت الوزارة توقّعات أكبر من تلك الواردة في مشروع الموازنة الأوّلي، نتيجة تعديل توقعات إيرادات الضريبة على القيمة المضافة التي تشكل 20% من الإيرادات وضريبة الدخل، ما حوّل العجز الى فائض بقيمة 25 الف مليار ليرة، ودفع لجنة المال الى استخدام هذا الفائض لتعديل الضرائب والرسوم والشطور وبعض النفقات على ان يصبح عجز الموازنة صفراً كون الدولة عاجزة عن الاقتراض.
وشرح ضوّ أن إمكانية تحقيق فائض في الموازنة مرتبط بفائض الإيرادات المودعة منذ العام الماضي لدى مصرف لبنان، والتي يمكن استخدامها لإعطاء حوافز مالية لموظفي القطاع العام بالإضافة الى الإيرادات التي ستجبيها في 2024. أما في حال بقيت النفقات على الرواتب والأجور على حالها، وحصلت تقلّبات في سعر الصرف صعوداً، فإن الإيرادات الضريبية بالليرة سترتفع في مقابل استقرار نفقات الرواتب والأجور بالليرة، ما سيحقّق فائضاً في الموازنة.
في المقابل، أكد أن الحفاظ على عجز صفر في الموازنة مرهون بإمكانية جباية الإيرادات المقدّرة من الضرائب والرسوم التي أقرّتها لجنة المال والموازنة، في ظلّ المخاوف من زيادة الاقتصاد النقدي غير الرسمي والتهرّب الضريبي وبالتالي تقلّص عدد الشركات والمداخيل المصرّح عنها، ما سيؤثر سلباً على حجم الإيرادات وعلى عجز الموازنة.
وبالنسبة إلى عدم تضمين الموازنة كلفة خدمة الدين العام، لفت ضوّ الى أن كلفة خدمة الدين العام صفر في الموازنة بسبب توقف الدولة عن سداد الفوائد على الدين بالليرة والدولار، معتبراً أنه يتعذّر إضافتها لأن كلفة خدمة سندات اليوروبوندز هي بالدولار وستؤدي إضافتها كاملة الى النفقات الى عجز هائل في الموازنة، خصوصاً أنه لم يتمّ التوافق بعد مع الدائنين على نسبة الاقتطاع وإعادة الجدولة. مشيراً الى أن عدم تضمين كلفة الفوائد على الدين المحلي رغم أنها غير مرتفعة (700 مليون دولار)، لم تشملها الموازنة أيضاً لانه لا يمكن التمييز بين الدائن الأجنبي والمحلي، الأمر الذي قد يؤدي الى رفع دعاوى قضائية، الى حين إيجاد تسوية بشأن كيفية تسديد الدين العام.