عبّاس إبراهيم … “طنسة لبنان”
إنجازات الأمن العام ومهامه توسّعت وتشعّبت وجاءت مفصّلة على قياس أخلاقيّات اللواء عباس إبراهيم وشخصيته
لطالما سألت نفسي لماذا يرتاح اللبنانيون إلى اسم المدير العام للأمن العام اللواء عبّاس إبراهيم، ويمحضونه الثقة والمحبة والاحترام؟ لماذا عندما يتسلّم هذا الرجل ملفاً أو قضيّة، كانوا أكيدين أنّ الملف سيُنجَز، والقضيّة ستصل إلى برّ الأمان؟ ولماذا يشعرون معه بالطمأنينة والأمان والقدرة على ابتداع الحلول؟
أن يصل مسؤول سياسي إلى هذا المستوى من العلاقة مع الناس فهذا أمر يمكن أن يحدث، أو أنه حدث في ذاك الزمن اللبناني الجميل، أما أنْ يصل مسؤول أمني إلى هذه المرحلة فهذا نادراً ما يحصل، لأنّه من الصعب أن تلغي من عقل الناس وخصوصآ بعد الذي عانوه أيّام الوصاية حاجز الخوف أو ما يُسمّى بالـ”tabou” بين الأمن والناس.
لم يكن هذا الرجل ليصل إلى ما وصل إليه، لو لم يكن لبنانيآ حتى العظم، يعرف ويعيش هموم الناس ووجعهم، و”شبعان في بيته وتربيته” وعلى كل المستويات، ومن القلائل في هذه الدولة الذي يضع موقعه في خدمة لبنان بكل طوائفه وأحزابه، كما أنّه رجل أفعال والناس يحبّون في هذه الأيّام هذا الصنف من الرجال بعد التجارب المريرة التي عانوها.
عندما تسلّم اللواء عباس إبراهيم المديرية العامة للأمن العام تعّهد بإحداث تغيير جذري فيها، وهذا ما فعله وفق خطة منهجيّة متدرّجة نقلت المديرية العامة إلى الحداثة والعصرنة، إضافة إلى إعادة الهيكلة وتنمية الموارد البشرية وتحسين الأداء، حدّد اللواء إبراهيم مهام الأمن العام ومسؤوليّاته في مواجهة عدوّين أساسيّين هما الإرهاب وإسرائيل. الإرهاب الذي حاول التسلّل عبر الحدود الشرقية وانكفأ مهزوماً، وإسرائيل التي تتربّص بالحدود والثروات الجنوبية وفشلت في تحقيق أهدافها…
ولكنّ إنجازات الأمن العام ومهامه توسّعت وتشعّبت وجاءت مفصّلة على قياس أخلاقيّات اللواء عباس إبراهيم وشخصيته، وهو الذي أحيلت إليه كل الملفّات الصعبة والمعقّدة والدقيقة ونجح فيها وأبلى البلاء الحسن بدءاً من ملف تحرير الرهائن والأسرى من راهبات معلولا إلى ملف النازحين السوريّين مروراُ بملف المخيّمات الفلسطينيّة في عين الحلوة وملف ترسيم الحدود البحريّة والبريّة مع إسرائيل…
– في موضوع المخيّمات، كان لافتاً أنّ الفصائل الفلسطينية مجتمعة سلّمت أمرها للواء إبراهيم ومنحته ثقتها وأظهرت كل استعداد للتعاون معه بعدما كانت له مساهمات أساسية في احتواء الكثير من المشاكل والمخاطر الأمنيّة وتجنيب مخيم عين الحلوة معركة عبثية تحوّله إلى “نهر بارد آخر”.
– في موضوع ترسيم الحدود الجنوبية، كان لافتاً أنّ أركان الحكم توافقوا على أنْ يكون اللواء إبراهيم قناة تواصل وتفاوض مع الأميركيّين والأمم المتحدة وفوّضوا إليه اتخاذ ما يلزم من “مواقف ومناورات” تحت سقف الموقف اللبناني الموحّد في رفض التفريط بنقطة ماء وذرّة تراب.
– في موضوع النازحين السوريّين وهو الأصعب بالنظر لأثقاله وأخطاره وتعقيداته وأبعاده، لم يتردّد اللواء إبراهيم في “اقتحام” هذا الملف والشروع في تفكيكه وفتح باب العودة الطوعيّة والآمنة، وأخذ في الاعتبار المصلحة الوطنيّة العليا لوحدها وبعيداً عن كل ما يجري من تجاوزات وخلافات وتوظيفات سياسية أو طائفية.
– وعندما كان السياسيّون غارقين في متاهات وتنظيرات وسجالات، كان اللواء إبراهيم منصرفاً إلى العمل الجدّي والهادف عبر تنظيم عمليّة العودة الطوعيّة لثلاث دفعات من النازحين حتى اليوم ومواكبتها بتسهيلات لوجستية وضمانات معنويّة بالتنسيق مع السلطات السورية المختصة، يقيناً منه بدقة هذا الملف وخطورته، وأنّ لبنان لم يعد قادراً، بإمكاناته المحدودة وصغر مساحته وشح موارده وتوازناته الطائفية والديموغرافية، على تحمّل أعباء النزوح وكلفته العالية ومخاطره الكثيرة، وحان الوقت للتصدي لهذه القضيّة الوطنيّة والإنسانيّة بمسؤولية ومن دون إبطاء.
– وفي خضم هذه الملفات الكبيرة طرأ تطوّر من خارج السياق يتعلق بمرسوم التجنيس الذي أثار لغطاً وضجة سياسية وإعلامية لم تهدأ إلا بعد قرار رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إحالة هذا المرسوم إلى الأمن العام، وتكليف اللواء إبراهيم التدقيق فيه وتصحيحه وتنقيته من الأخطاء والشوائب.
وكان أنْ أنجز المدير العام للأمن العام هذه المهمة على أفضل ما يكون وحدّد مكامن الخلل وقدّم الملاحظات اللازمة بما في ذلك شطب أسماء أشخاص لا يستحقون الجنسيّة اللبنانيّة ولا يستوفون الشروط القانونيّة ممّن تحوم حولهم شبهات أمنيّة وقضائيّة…
وإلى جانب اهتماماته ومسؤوليّاته الأمنيّة، وفي ظل علاقات دوليّة وإقليميّة نسجها ووضعها في خدمة لبنان ومصالحه العليا، يعير اللواء إبراهيم أهميّة للشأن السياسي ويتعاطاه من زاوية ترسيخ الاستقرار السياسي كجزء من الاستقرار اللبناني العام، في بلد قائم على “الأمن السياسي” حيث الأمن والسياسة فيه متلازمان ومترابطان.
– قبل الانتخابات عندما ساءت الأمور بين “حركة أمل” و”التيار الوطني الحرّ” وبدأ الأمر ينعكس سلباً على مجمل الوضع العام لم يجد اللواء إبراهيم حرجاً في الدخول على خط المساعي للتهدئة والاحتواء…
– وبعد الانتخابات عندما انطلقت عمليّة تشكيل الحكومة وبَرَزَت تعقيدات، “تطوّع” اللواء إبراهيم وبطلب وتمنٍ من الجهات المعنيّة والمراجع العليا للمساهمة في تذليل العقبات وإيجاد مخارج… وهو اليوم يدخل على خط العقدة الدرزيّة – الدرزيّة ويقوم بوساطة بين زعيم المختارة وليد جنبلاط و”التيّار الوطني الحر”، والمفارقة هنا أنّه لم يأخذ “عقدة” على عاتقه إلا وسلكت طريقها نحو الحل، ولم يدخل في “وساطة” بين جهتين متخاصمتين إلا وجاءت النتيجة مثمرة ومنتجة.
– بعد كل ما تقدّم، وهو عيّنات من مسار عام لهذا الرجل، لا يعود مستغرباً أنْ يكون اللواء عباس إبراهيم موضع ثقة وتقدير واحترام لدى معظم اللبنانيّين وعلى مختلف انتماءاتهم الطائفيّة والحزبيّة، وأنْ تتوجّه إليه الأنظار ويُطلب منه ما هو صعب ومستحيل على غيره.
في لبنان هناك مثل شائع يقول “ما في بالجيش غير طنسة”… وعباس ابراهيم هو “طنسة لبنان” ربما لحسن حظ لبنان، وقد أظهرت التجارب أنّه “قدها وقدود، وكتافو بيحملوا”. لكن تقع على السياسيّين مسؤوليّة كبيرة في التعاون مع اللواء ابراهيم وتسهيل مهمّاته، فالوقت لم يعد يسمح “بالدلع والترف” فإذا انهارالهيكل سينهار على الجميع، وعلى السياسيّين أن يعلموا أنّ ما راكمه هذا الرجل من ثقة واحترام ومحبّة عند الناس له حدود، فلكل شيء وقته ونهايته، ومن له “أذنان سامعتان فليسمع”.
دافيد عيسى