«التيار الوطني الحرّ» نسخة 2018: أنا مين؟
تساؤلات قد تفسّر الحركة البطيئة في ماكينات «التيار» المناطقية أو عدم حماسة المتطوّعين لوضع أنفسهم في خدمة الحزب
كلير شكر
نادراً ما تصادف عونياً لم يحفظ نشرات العماد ميشال عون التي كان يُرسلها في تسعينات القرن الماضي إلى مناصريه، عن غيْب أو يحتفظ بكتابها في مكتبته أو في متناول يده، ويعود إليها في كلّ شاردة وواردة. تلك التي كانت تُتلى مرة واثنتين، لا بل عشرات المرات قبل توزيعها تحت جنح الليل على المؤيّدين…
هي مرجعه وأشبه بقاموسه السياسي، لا بل أكثر من ذلك، هي ملهمته. الغالبية العظمى من «الجيل المؤسّس» تتذكرها بالتفصيل المملّ، عناوين تلك النشرات، جملاً حروفاً وظروف كتابتها. وتحتفظ بذكراها في مكان جميل من وجدانها النضالي.
كُثُر مِن هؤلاء يعودون اليوم إلى هذه القصاصات. يبحثون عمّا ينتشلهم من «ضلالهم». هل هم صاروا بعيداً من رفاقهم ممَّن قرّروا اللحاق بالقيادة الحزبية «على علّاتها»؟ أم أنّ «التيار» بنسخته المنقّحة صار بعيداً عن ذاته وروحيّته؟
لا حاجة الى تقريب الصورة عبر «زوم إنّ» لرصد الفوارق بين مشهدَيْ 2005 أو 2009 وبين مشهد اليوم. لا ضرورة لإبراز نصوص عون عن الانتخابات وقانونها وعن التحالفات، وإسقاطها على أداء «التيار»، لتثبيت الإدانة على ما تقوم به القيادة من تحالفات وخطاب انتخابي جعل منه حزباً جديداً لا يشبه «التيار العوني» إلّا بالعنوان، أو كما يُقال بـ«الآرمة».
يقول عون في نشرة موقعة في 1 أيار 1998 إنّ «هناك خطراً على التغيير ذاته إذا لم يتّعظ المواطن ممّا حدث ويحدث في البلاد واستسلم إلى معايير خياراته السياسية القديمة التي أوصلته إلى هذه الكارثة. وأولى الواجبات رفض المواطن لأن يكون إرثاً انتخابياً لثنائية موروثة فيختار وفقاً للتقاليد البالية… أما الرفض الثالث فهو لأبناء المال الساعين إلى واجهة السلطة وهؤلاء المشيّعون لكرمهم المزيّف وعدم حاجتهم يعملون دوماً لزيادة ثرواتهم. هؤلاء يعاملون المواطنين كزبائن ويستعبدونهم بالحاجة، فلا تُخدعوا بوعودهم العمرانية ولا تتجاهلوا ما صنعت بكم وعودُ الإعمار…»
فأين «التيار الوطني الحر» من هذه «الوصايا»؟ هل تشبه تحالفات اليوم تحالفات الأمس؟ ماذا عن الخطاب؟ أين هو مِن المبادئ التي نشأ عليها هو، أو أقلّه المناصرون؟
عام 2005 خاض «التيار» المعركة النيابية تحت عنوان سياديّ بامتياز في مواجهة كلّ القوى السلطوية، فعاد عون إلى بيروت على متن تسونامي شعبي منحه زعامةً لا موازيَ لها. اختار العونيون يومها «النقاء» في تحالفاتهم، وفضّلوا اللونَ الواحد على «قوس القزح». أما الاستثناءات فكانت محدودةً ومحصورةً جداً: تيارُ «المردة» في الشمال، إيلي سكاف في زحلة، «الطاشناق» في المتن وبيروت، ونائب رئيس مجلس الوزراء السابق ميشال المر في المتن. فيما البقية الباقية وقفت على جبهات الخصوم.
حينها برّر الجنرال هذه الاستثناءات بأنّها «تحالفات الضرورة» هرباً من «الانتحار» طالما أنّ الجميع اتّفقوا على إلغاء «التيار». لكن بطبيعة الحال لم يقرب من مفهوم المحاصصة و«التقطيع والتوصيل».
حتى إنّه لم يكلّف نفسَه عناءَ البحث عن عنوان للمعركة النيابية. كان يكفي الاتّكال على أداء الخصوم الذين تكتّلوا في «حلف رباعي» جمَع التناقضات، لكي يراهن على خيارات الناخبين، ويربح رهانه. كانت معركة «ثوريّة» في مواجهة مكوّنات السلطة، سيعود الحراكُ المدني الى «التماثل» بها بعد نحو عشر سنوات. وتكلّلت بالنجاح.
عام 2009 خاض «التيار» معركته في ظلّ «تفاهم مار مخايل»، أيّ بانضمام الثنائي الشيعي حيث دوائر التماس، منها بعبدا، جبيل، جزين وزحلة. كانت جولة سياسية بامتياز. مرجعها تلك الوثيقة الموقّعة بين «حزب الله» و«التيار العوني»، ولو أنّ الاستحقاق أتى في الزمن بعد «اتّفاق الدوحة» الذي أذاب بعضاً من الجليد بين اصطفافَي 8 و14 آذار. لكنّ «التيار الوطني الحر» لم يحِد عن بوصلته السياسية ولا تنازَل للتفاهمات البراغماتية.
حتى الأمس القريب كان لا يزال «الكتابُ البرتقالي» موضعَ انتقاد لدى خصوم العونيين. «يعيّرونهم» أنهم وثّقوا أفكارَهم ومبادئهم التي ستتحوّل مآخذَ عليهم فيما لو قرّروا تصويب هذه الأفكار. كما حصل مثلاً في مسألة سلاح «حزب الله» بعد تفاهم «مار مخايل». الأهمّ من ذلك، أنّ «التيار» لم يُعرِّ يوماً نفسَه من المظلة السياسية ولم يكن جمهورُه يوماً «أعمى» مأخوذاً بشبكات المصالح الشخصية والعامة، أو لا يفقه المحاسبة أو المساءلة.
أما في 2018 حين تُركت دفّة القيادة لرئيس «التيار» جبران باسيل، فبدا الفارقُ واضحاً. يستعدّ «التيار» لخوص مواجهات لا نكهة سياسية لها حتى لو صوّب باسيل إحداثيات راجماته في مواجهة البعض. لكنّ جزءاً من هذا البعض، أي حركة «أمل» حليف، فيما جزءٌ آخر كان حليفاً، أما الحلفاء الجدد فهم خصوم الأمس.
قد يكون الردّ البديهي أنّ دولابَ السياسة سريعُ الدوران، ولا خصومات أبدية أو تفاهمات سرمدية، لكنّ جمهور «التيار» وقواعده مسيّسة النشأة، وسيكون من الصعب على القيادة أخذها الى الاستحقاق بلا عنوان سياسي واضح يشدّ عصبها.
ما قام به «التيار» حتى اللحظة هو عبارة عن شبكة تحالفات مصلحية، لا انسجامَ سياسياً بين مكوّناتها، ولا خطابَ موحّداً. فما الذي يجمع بين الوزير بيار رفول ورئيس «حركة الاستقلال» ميشال معوض؟ ماذا الذي يمنع وقوف الأخير على منبر البرلمان منتقداً سلاح «حزب الله»؟ ماذا الذي يجمع العميد المتقاعد شامل روكز ورئيس «المؤسسة المارونية للانتشار» نعمة افرام؟
هل هضم جمهور «التيار» رفض الأخير ضمّ مرشح «حزب الله» حسين زعيتر الى اللائحة البرتقالية في كسروان ـ جبيل؟ ماذا يجمع المرشح سركيس سركيس بكلّ أعضاء اللائحة العونية في المتن؟ ما الذي يمنع المرشح أسعد نكد من التغريد وحده سياسياً حين تطأ رجلاه أرض قاعة مجلس النواب؟ ماذا يفعل رياض رحال على اللائحة البرتقالية في عكار؟ أو نقولا شماس على لائحة الأشرفية؟
لا شكّ في أنّ هذه التساؤلات قد تفسّر الحركة البطيئة في ماكينات «التيار» المناطقية، أو عدم حماسة المتطوّعين لوضع أنفسهم في خدمة الحزب. العونيون وحدهم قادرون على فهم هذه الحال إذا ما استعادوا مشهدَي 2005 و2009 قبل شهر من موعد فتح صناديق الاقتراع، كيف كانت مكاتبهم؟ وكيف هي اليوم…؟
«الجمهورية»