
لقد ابتكرَ الإنسانُ التأريخَ ليكونَ السياقَ الزمنيَّ للتاريخ، واعتمدَ تقسيمَ الأزمنةِ والعصورِ بحسبِ الظواهرِ الكبرى (العصورِ الجليديةِ والعصورِ الحجريةِ)، أو التحوّلاتِ الفكريةِ الكبرى (اكتشافِ الكتابةِ وعِلمِ الحسابِ فالنظامِ الستينيِّ للتأريخ)، وأحداثٍ سياسيّةٍ كان لها أثرٌ في مجرى الزمن (بدايةُ التأريخِ الرومانيِّ مع بناءِ مدينةِ روما) حتى وصفَهُ الباحثونَ بالعصرِ الرومانيّ.
ثمّ جاءَ التأريخُ الدينيُّ (ولادةُ السيّدِ المسيح، وهجرةُ النبيِّ محمّد)، وهي كلُّها أحداثٌ تاريخيّةٌ كان لها التأثيرُ الكبيرُ في تحوّلاتِ مجرياتِ الوجودِ البشريّ، فاعتمدَ الإنسانُ عليها ليوثِّقَ بالتأريخِ شهادةَ الزمنِ فيها، وتكونَ سجلَّ سيرِ حياتِنا البشريّة.
وبينَ كلِّ تلك “التواريخ”، وُجدت تأريخاتٌ خاصّةٌ كان لها أثرٌ محدودٌ في مجرياتِ التاريخ، لكنّها كانت خاصّةً أو مهمّةً في حياةِ جماعةٍ إثنيّةٍ ما، أو لقوميّةٍ معيّنة.
أمّا قصدُنا من سردِنا هذا، فهو الارتكازُ على ذاك السياقِ التأريخيِّ لإعلانِ حقيقةٍ وجوديّةٍ فكريّةٍ جديدةٍ تثبتُها علومُ المنطقِ والتحليلُ الواقعيّان، ويثبتُها تعريفُ الحقيقةِ بأنّها “وجودٌ ومعرفةٌ”؛ حقيقةٌ بائنةٌ كالشمسِ في حياتِنا، أدركَها الوعيُ وتنبهَ لها الحسُّ الإنسانيّ كما أدركَ وتنبهَ لكلِّ ما سبقَ من تأريخٍ للحقائقِ الوجوديّةِ في سيرِ الحياة.
والحقيقةُ هنا هي أنّ استشهادَ سماحةِ السيّدِ حسن نصرالله هو تأريخٌ جديدٌ لوجودِنا البشريّ، لما فيها من حدثٍ يكتسبُ الأهميّةَ الكبرى ليس فقط من شخصه ومسؤوليته وإنجازته بل أيضا من مجرياتِ التحوّلاتِ الكونيّةِ والسياسيّةِ والاقتصاديّةِ والاجتماعيّةِ الكبرى والحاصلةِ من بعدِه وأحداثِها المتلاحقة، وكلها مبنية على استشهاده، والتي لا يقتصرُ أثرُها على حياةِ أمّةٍ خاصّةٍ أو جغرافيا محدّدة، بل يتناولُ الواقعَ البشريَّ العالميّ، ليكونَ ما بعدَ استشهادِه عالَمًا مختلفًا وغيرَ ما قبلَه، وليكونَ استشهادُه شهادةً تأريخيّةً ينتهي بها زمنٌ ويبتدئُ بعدها زمان.
بهذه الحقيقةِ يكونُ لنا المعنى الذي يسوقُ إلينا كلَّ فهمٍ، وكلَّ أثرٍ، وكلَّ تعبيرٍ لعظمةِ هذا الاستشهاد، فتكونُ الشهادةَ الكبرى على الأزمنةِ: بما مضى وانقضى، وما هو حاصلٌ، وما هو آتٍ. ليُصبحَ التأريخُ بهذا اليومِ هو اليومَ الأوّلَ من الشهرِ الأوّلِ للعامِ الثاني من الشهادة. وليكونَ هذا العامُ وهذه السنةُ اللذين إنقضيا العامَ الأوّلَ والسنةَ الأولى في عصرِ الشهادةِ التي سيشهدُ العالمُ أجمعُ مخاضَ نتائجِها على الوجودِ البشريِّ لا محالة.
فسلامُ الخلودِ والمجدِ لروحٍ أحيتْ فينا حياةً، وتحيّةُ الوفاءِ بصدقِ الميثاقِ لعهدٍ عهدْنا فيه كلَّ الوفاءِ، فكان ردُّ الوديعةِ وديعةً فينا للحياةِ ما بقيتْ حياة.
يوم الأحد: اليومُ الأوّلُ من الشهرِ الأوّلِ في العامِ الثاني من الشهادة، الموافقُ لتأريخِ 28/09/2025 ميلاديّة.