اخبار محليةالرئيسية

يالطا جديدة على أبواب الشرق الأوسط: ألاسكا ترسم الخرائط وصقيعها يهدد الجميع

د. هشام الأعور

قبل أن ينطفئ لهيب الحرب العالمية الثانية، كان العالم على موعد مع سلسلة قمم تاريخية رسمت ملامح نظام دولي جديد. ففي شباط/ فبراير 1945، اجتمع ستالين وتشرشل وروزفلت في يالطا على شواطئ البحر الأسود، ليرسموا خرائط النفوذ، ويضعوا أسس ما سُمّي لاحقاً بالأمن الجماعي، ويمنحوا – نظرياً – الشعوب المحررة من النازية حق تقرير مصيرها. لكن ما بدا يومها مشروعاً لسلام طويل الأمد، تحوّل مع الوقت إلى شرارة حرب باردة امتدت لعقود، قسمت العالم إلى معسكرين متقابلين: شرقي بقيادة موسكو، وغربي بقيادة واشنطن.

هذه الترتيبات لم تولد فجأة؛ فقد سبقها مؤتمر موسكو في خريف 1944، حيث اقتسم ستالين وتشرشل أوروبا على الورق، وقبل ذلك مؤتمر طهران عام 1943 الذي وضع خطط الحرب على ألمانيا وتناول ملفات الشرق الأوسط، من إيران وتركيا إلى يوغوسلافيا واليابان. ثم جاء مؤتمر بوتسدام صيف 1945 ليقرر مصير ألمانيا المهزومة ويضع خطوط النظام الدولي الجديد. ومن المثير أن فرنسا، ممثلة بشارل ديغول، غابت عن كل تلك اللقاءات، لأن حضورها كان سيعقّد التفاهمات التي أبرمها الثلاثة الكبار خلف الأبواب المغلقة.

واليوم، بعد ثمانية عقود تقريباً، يبدو أن التاريخ يستعد لكتابة فصل جديد بنفس الروح القديمة، وإن اختلفت الأسماء والساحات. صحيح أن أوكرانيا تتصدر المشهد الدولي، لكن الشرق الأوسط يظل ساحة أساسية في لعبة الأمم. التطورات الأخيرة في السويداء والساحل السوري، وما تتركه من تفاعلات على لبنان والعراق، تكشف أن المنطقة تقف على أعتاب تحولات كبرى قد ترسم جغرافيا سياسية جديدة، تُغيّر موازين القوى وربما مسارات الحدود غير المعلنة.

لبنان المثقل بأزماته الاقتصادية والسياسية، والعراق العالق بين التجاذبات الإقليمية والدولية، وسوريا المنهكة بحربها الطويلة، كلها تتحول إلى أوراق ضغط ومساومة في يد القوى الكبرى. وكما كان في يالطا، قد تُرسم خطوط النفوذ الجديدة من وراء البحار، بلا مشاركة فعلية من أصحاب الأرض.

في هذا السياق، يطل اجتماع ألاسكا بين الرئيسين الأميركي والروسي كموعد مفصلي لا يقتصر على أوكرانيا أو القطب الشمالي، بل قد يمتد إلى ملفات الشرق الأوسط، في العلن أو في الكواليس. هناك، على بعد كيلومترات قليلة من روسيا عبر مضيق بيرينغ، قد تُبرم تفاهمات تحدد مصير مناطق بعيدة آلاف الأميال، وفق ميزان مصالح لا مكان فيه لاعتبارات الأمم المتحدة أو حقوق الشعوب.

قد نشهد قريباً ملامح “يالطا جديدة” تعيد صياغة المشهد العالمي، ويكون الشرق الأوسط جزءاً أساسياً منها، سواء عبر إعادة توزيع مناطق النفوذ أو تثبيت وقائع جغرافية وسياسية فرضتها الحروب والأزمات. ويبقى السؤال: هل ينجح الكبار في صياغة تسويات تُطفئ النيران، أم أن صقيع الخلافات سيجعل من ألاسكا محطة أخرى في مسار صراع لا ينتهي؟

وإذا كانت يالطا الأولى قد قسمت العالم إلى نصفين، فإن “يالطا المقبلة” قد تُجزئ الشرق الأوسط إلى فسيفساء من الكيانات الضعيفة، تُدار من الخارج وتُستنزف من الداخل، فلا يبقى من خرائطه إلا خطوط على الورق، ومن دوله إلا أسماء على الميكروفونات الأممية. وحينها، لن يكون السؤال عن مَن ربح الصفقة، بل عن مَن بقي له وطن كامل ليحزن عليه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى