
في نهاية شهر تموز الماضي عاد إلى الواجهة موضوع النقص في السيولة بالليرة اللبنانية، وهو ما يظهر عبر معدّل الفائدة على الاقتراض بين المصارف من يوم لآخر أو «انتربنك»، الذي ارتفع إلى 70% في 19 تموز الماضي، علماً أنه بلغ في مرحلة ما من نهاية السنة الماضية نحو 140%. يعكس هذا الارتفاع النقص في السيولة بالليرة في السوق، وهو يعني أن هناك طلباً على الليرة يُترجم في اقتراض المصارف من بعضها البعض.
بدأ هذا الارتفاع في معدلات اقتراض المصارف بين بعضها البعض من يوم لآخر، يظهر في منتصف السنة الماضية ليرتفع تدريجياً ويبلغ ذروته في تشرين الأول الماضي متجاوزاً 140%. أتى ذلك بعد استقرار لمدة طويلة على معدل 2%. إلا أنه انخفض في الأشهر الأولى من السنة الجارية إلى مستويات تعدّ مقبولة في ظل الأوضاع اللبنانية مسجّلاً بشكل عام نحو 20%. غير أن هذا الاستقرار لم يدم طويلاً، فمنذ مطلع آذار الماضي عاد إلى الارتفاع بشكل متدرج وبلغ ذروته في هذه السنة في نهاية أيار الماضي مسجّلاً أكثر من 100%، ثم تراجع مباشرة إلى 20%. كأنه يدخل في دورة استقرار تليها دورة ارتفاع. فمن مطلع حزيران حتى منتصف تموز، استقرت معدلات الانتربنك ثم قفزت فجأة إلى 70%.
سعر فائدة الانتربنك يعكس أوضاع السيولة وآليات عمل المصارف وأولوياتها. وينتج هذا السعر من الحاجات بالليرة التي تستشعرها المصارف التي تركّز على الاحتفاظ بكميات من الدولارات في سيولتها بدلاً من الليرات. وفي مطلع كل شهر يضخّ المصرف المركزي كميات من الليرات بناء على أوامر من وزارة المال لتغطية رواتب العاملين في القطاع العام. أيضاً يضخّ كميات حين تنفق الوزارات من اعتماداتها على شراء سلع أو خدمات بالليرة. أيضاً هناك استحقاقات سندات الخزينة التي يحملها الضمان الاجتماعي فإذا استحقّ أجلها وجدّدها الصندوق أو نقلها من مصرف إلى آخر يحصل اختلال ما في السوق يجعل بعض المصارف تطلب الليرات فيما غيرها لديه وفرة. كذلك يعمل عدد من المودعين على تسييل ودائعهم بالليرة وهو ما يخلق طلباً على الليرات لدى المصارف التي توجد فيها حساباتهم. بشكل تلقائي، كلما كان الحجم الإجمالي للطلب مرتفعاً، كلما ارتفعت أسعار الفائدة. فالمصارف التي تعاني من نقص في السيولة ويترتب عليها تلبية الطلب على الليرة لزبائنها، ستقترض مباشرة من المصارف التي تملك الوفرة. التوازن في العرض والطلب لا يخلق تقلبات في سعر الفائدة والعكس هو ما يحصل الآن.
إذاً، ثمة الكثير من العوامل والظروف التي تؤدي إلى هذه التقلبات في سعر فائدة الانتربنك. لكن الأساس في هذه العملية كلها هو التناغم بين السياسة المالية والسياسة النقدية، أي بين وزارة المال ومصرف لبنان. فالهدف هو الحفاظ على ثبات سعر الصرف، وبالتالي يتعيّن على الاثنين في سبيل تحقيق هذا الهدف، التحكّم الشديد بالسيولة التي يتم ضخّها في السوق. بشكل أوضح، يحصل هذا الأمر في سياق سياسة تنشيف السيولة التي يعتمدها مصرف لبنان بالتنسيق مع وزارة المال، منذ سنة ونصف سنة تقريباً، والقائمة على سحب كميات كبيرة من السيولة بالليرة من السوق لتقليص الطلب على الدولار، وبالتالي تهدئة تقلبات سعر الصرف والحدّ من مساره الارتفاعي الذي بدأ في منتصف 2019 واستمر حتى الفصل الأول من 2023.
يُعتقد على نطاق واسع، أن ارتفاع سعر فائدة الاقتراض من يوم ليوم بين المصارف، يعود إلى ندرة السيولة الناتجة من المسار التقشفي المالي والسياسة النقدية التشددية. ويظهر ذلك عبر تقلّص المعروض النقدي M4 الذي انكمش بمقدار 13,018 مليار ليرة، وانخفاض العملة المتداولة في السوق بـ903 مليارات ليرة في تموز، وتراجع محفظة سندات الخزينة لدى القطاع غير المصرفي بـ339 مليار ليرة. علماً أن معدل الفائدة على القروض الليلية بين المصارف انخفض في الأيام الأخيرة إلى 20%، مصحوباً، على الأرجح، بارتفاع في السيولة. وعلى الهامش، شهدت الودائع المقيمة انكماشاً كبيراً، إذ تراجعت هذه الودائع الإجمالية لدى المصارف المحلية بمقدار 11,776 مليار ليرة لبنانية، منها 11,093 مليار ليرة من الودائع بالعملات الأجنبية، و683 مليار ليرة من ودائع الليرة.
(الأخبار)