بين الرمزية والاحتقان السياسي: قراءة في خلفيات الحضور الدرزي إلى خلوة جرنايا
كتب المحرر السياسي

تعيش طائفة الموحدين الدروز مرحلة دقيقة من التحوّل الداخلي، تتجلّى ملامحها بوضوح في التبدلات التي طرأت على المزاج الشعبي والديني في الجبل، لا سيّما بعد التطورات الدامية في السويداء. فبينما تتراجع شعبية الزعيم التقليدي وليد جنبلاط بشكل غير مسبوق، وسط اتهامات بالتخاذل والتواطؤ مع قوى خارجية ساهمت في سفك دماء الأبرياء، يبرز اسم رئيس حزب التوحيد العربي الوزير السابق وئام وهاب كأحد الأصوات التي حصدت شرعية جديدة داخل الشارع الدرزي، بعد مواقفه الحاسمة في الدفاع عن السويداء ورفضه المطلق لأي شكل من أشكال التآمر عليها.
في هذا السياق، تحوّلت خلوة جرنايا – كفرحيم، التي شهدت بالأمس مجلس عزاء درزي جامع، إلى مرآة حقيقية لما يجري في عمق البيئة الدرزية، حيث لم تعد الرموز السياسية والدينية التقليدية بمنأى عن المساءلة، ولا محصّنة من الغضب الشعبي المتصاعد.
مشهد العزاء في جرنايا: ما بين الواقع والتفسير السياسي
رغم أن المناسبة أتت في إطار اجتماعي – ديني محض، فإن الحضور المتزامن لكل من رئيس حزب التوحيد العربي وئام وهاب، والرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، أثار تفاعلات حادة، لا بسبب اللقاء نفسه، بل بسبب التباين في طريقة استقبال كل منهما.
وقد لوحظ ترحيب خاص بالوزير وهاب من قبل عدد من المشايخ والحاضرين، قابله فتور لافت في التعامل مع حضور جنبلاط، ما فتح الباب أمام قراءة رمزية للمشهد. ووفق مصادر خاصة، فإن هذا التفاوت يعكس تبدلاً عميقًا في المزاج السياسي والديني داخل الطائفة، يتجاوز تفاصيل المناسبة نحو سؤال أكبر عن الشرعية التمثيلية.
الحملة الدرزية على جنبلاط: تحالفات ومواقف تحت النار
تشير مصادر مطّلعة إلى أن وليد جنبلاط بات يواجه حملة داخلية غير مسبوقة في الأوساط الدرزية، على خلفية مواقفه من الملف السوري، وخصوصًا ما جرى مؤخرًا في السويداء. وتتّهمه جهات شعبية ودينية بـ”السكوت أو التواطؤ” مع جماعات تعمل تحت غطاء فصائل “الجولاني ” أو أحمد الشرع زعيم ميليشيا “هيئة تحرير الشام”، ما أسهم – بحسب هذه المصادر – في تسهيل المجازر التي ارتُكبت بحق المدنيين في الجبل.
وترى هذه الأوساط أن جنبلاط خسر ما تبقّى من شرعية شعبية بعدما غاب عن مشهد الدفاع عن أبناء طائفته في أكثر اللحظات صعوبة، واختار مواقع وتحالفات باتت موضع إدانة داخلية واضحة.
المرجعية الدينية على خط الأزمة: أبي المنى في دائرة الغضب
إلى جانب الزعامة السياسية، تتعرض المرجعية الدينية الرسمية ممثلة بشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز سامي أبي المنى لانتقادات واسعة، لا سيّما بعد تصريحاته الأخيرة التي دعا فيها إلى “إدخال السويداء بالقوة إلى كنف الدولة”، وهو ما اعتبره كثيرون انحيازًا صريحًا لرؤية أمنية – سياسية تهدد وجود الجبل وخصوصيته.
مصادر دينية وشعبية لم تتردد في تحميل أبي المنى، إلى جانب جنبلاط، مسؤولية معنوية عن الدماء التي سقطت في السويداء، معتبرة أن مواقفه جاءت على حساب وحدة الطائفة وأمنها، وابتعدت عن الموقع الجامع الذي يُفترض أن يحتله شيخ العقل.
وئام وهاب: من الصوت المعارض إلى صوت الجبل
في المقابل، يبرز وئام وهاب كموقف مختلف، استطاع عبر سلسلة مواقف واضحة أن يستقطب دعمًا شعبيًا متصاعدًا في الجبل. فقد شكّل خطابه الحاد ضد الجماعات التكفيرية، ودفاعه عن السويداء كرمز للصمود الدرزي، علامة فارقة أعادت تموضعه سياسيًا داخل الطائفة. وجاء الاستقبال الحار الذي لقيه في خلوة جرنايا ليترجم هذا التحول، لا بوصفه انتصارًا شخصيًا، بل كتعبير عن حالة مزاجية شعبية جديدة تُعيد رسم خريطة الولاءات داخل الجبل.
لحظة مفصلية في الوعي الجماعي
بعيدًا عن تفاصيل مجلس العزاء، تشير الوقائع إلى أن البيئة الدرزية تقف اليوم أمام مفترق طرق تاريخي، تعاد فيه مساءلة الزعامات والمرجعيات التي طالما احتكرت المشهد السياسي والديني. ويبدو أن التحولات المتسارعة، مدفوعة بالأحداث الميدانية والدماء المسفوكة في السويداء، تُمهّد لسقوط أشكال تقليدية من الشرعية، وبروز وجوه وخطابات أكثر التصاقًا بحاجات الناس وأوجاعهم.
خلاصة المشهد
ما جرى في خلوة جرنايا لم يكن مجرد تلاقٍ ظرفي في مناسبة عزاء، بل لحظة سياسية – اجتماعية كثيفة الرمزية. ففي دقائق معدودة، ظهر التباين الحاد بين من يُواجه نقمة شعبية غير مسبوقة، ومن بات يُنظر إليه كصوت صادق لجراح الجبل. وفي زمن التحوّلات، قد تكون الرموز أقوى من الخطابات، والاستقبالات أبلغ من البيانات.