اخبار عربية ودوليةالرئيسية

طيف ترامب فوق أوروبا: مدّ يمينيّ في رومانيا والبرتغال وبولندا

سعيد محمد - الاخبار

يمكن بروكسل أن تتنفّس الصعداء الآن، بعدما نجحت الضغوط في خطف فوز صعب لمرشّح وسطي مؤيّد للاتحاد الأوروبي في الانتخابات الرئاسية الرومانية، ومنعت انتصاراً بدا حتميّاً لمرشّح أقصى اليمين. لكنّ نتائج تلك الجولة، وانتخابات أخرى في كلّ من البرتغال وبولندا، أَظهرت تقدُّماً ملحوظاً لتيارات أقصى اليمين في جميع أنحاء أوروبا، شرقها كما غربها؛ وهي، وإنْ فشلت في الوصول إلى السلطة هذه المرّة، فقد أصبحت تمثّل كتلة المعارضة الرئيسية في غير ما بلدٍ أوروبي، ولا شكّ في أن جولة قادمة ستحمل بعضهم على الأقلّ إلى مراكز صنع القرار.

وبدا لافتاً أن المدّ اليميني، المستند أساساً إلى غضب الطبقة العاملة والوسطى من تردّي الأوضاع الاقتصادية بسبب سوء إدارة الوسطيين للسلطة – في ملفّات الحرب الأوكرانية، والهجرة، والفساد، وتقليص الخدمات الاجتماعية -، اكتسب زخماً إضافياً في هذا المفصل، من خلال التقارب الأيديولوجي مع اليمين الأميركي، بقيادة دونالد ترامب، على نحو آتى أكله ثماراً انتخابية في صناديق الاقتراع.

ففي رومانيا، خسر جورج سيميون، اليميني القوميّ الذي وصف نفسه بـ«مرشّح ترامب»، منصبَ الرئاسة ذا الصلاحيات الواسعة في الجولة الثانية من الانتخابات، لمصلحة بنيكوسور دان، عمدة بوخارست الذي يحظى بدعم بروكسل، بفارق ضئيل. وكان سيميون، زعيم «حزب التحالف من أجل وحدة الرومانيين»، تقدَّم بشكل حاسم على كلّ المرشحين في الجولة الأولى، وحصد أصوات أكثر من 40% من الرومانيين. لكنّ القوى السياسية المهيمنة على البلاد توحّدت في الجولة الثانية الحاسمة وراء دان – الذي لم تتجاوز حصّته في الجولة الأولى خُمس مجموع الأصوات – الذي حصل على نسبة 53.6%من الأصوات، ليظفر بالمنصب، ويُعيّن رسمياً، الأسبوع الماضي، رئيساً للبلاد في ولاية من خمس سنوات.

ولم يخفِ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حبوره من هذه النتيجة، قائلاً إن رومانيا اختارت «الديمقراطية، وسيادة القانون، والاتحاد الأوروبي». وكانت بروكسل ضغطت من وراء الكواليس لإلغاء الانتخابات الرئاسية التي جرت نهاية العام الماضي، بعدما تقدّم في جولتها الأولى، كلين جورجيسكو، المرشّح اليميني المناهض للاتحاد الأوروبي ولـ«حلف شمال الأطلسي»، والأقرب إلى روسيا. وأعيدت الانتخابات بعد استبعاد جورجيسكو بتلفيقات قانونية، ما استدعى ترشيح سيميون نفسه كبديل عن كتلة أقصى اليمين، علماً أنه أقرب إلى اليمين الأميركي منه إلى روسيا، فيما لا تمثّل العلاقات مع «الناتو» مشكلة في برنامجه.

ووفقاً لخبراء، فإن دان، الرئيس الوسطي الجديد، سيواجه، خلال فترته الرئاسية، معضلات سياسية واجتماعية متراكمة، فيما ينخر الفساد هياكل السلطة. ولذلك، فإن فشله المتوقّع في تغيير الأوضاع القائمة بشكل جذري بالنسبة إلى الأكثرية من الرومانيين سيُترجم حتماً شعبية إضافية لتيار أقصى اليمين.

وعلى الجانب الآخر من القارة، شهدت البرتغال زلزالاً سياسيّاً في الانتخابات البرلمانية الأحدث، بعدما نجح حزب «تشيجا» (أقصى اليمين) في كسر هيمنة الأحزاب الوسطية على الهيئة التشريعية، والمستمرة منذ 50 عاماً، ليصبح ثاني أكبر قوّة سياسية في البلاد، وأكبر حزب معارض، في تحوّل وصفه الخبراء بـ«الدراماتيكي»، إذ كان يستحيل تصوّر حدوثه حتى وقت قريب. وفيما حقّق «التحالف الديمقراطي»، وهو ائتلاف من حزبَي «الاجتماعي الديمقراطي» و«الشعب» (يمين الوسط)، انتصاراً مقنعاً لكن ليس حاسماً، عانى «الحزب الاشتراكي» (يسار الوسط) هزيمةً تاريخية، فيما واصل «الحزب الشيوعي البرتغالي» تراجعه.

فورة أقصى اليمين في أوروبا، ليست وليدة مَيْلٍ مستجدّ لدى الناخبين إلى التطرّف

وحصد «تشيجا»، الذي تأسّس عام 2019 ويقوده محلّل كرة القدم السابق أندريه فينتورا، 60 مقعداً في البرلمان المؤلّف من 230 مقعداً، ليحلّ ثانياً بعد «التحالف الديمقراطي» الذي حصل على 91 مقعداً – ليست كافية للانفراد بتشكيل حكومة -، ومتقدّماً على الاشتراكيين الذين توقّف عدد مقاعدهم عند 58. واستبعد رئيس الوزراء الحالي، لويس مونتينيغرو، الدخول في تحالف مع «تشيجا»، وهو ما سيضطره إلى محاولة استرضاء الاشتراكيين، أو المجازفة بقيادة حكومة أقلية هشّة تضعه تحت ضغط شديد لتعديل سياساته في القضايا التي تهمّ ناخبي «تشيجا»، وبخاصة مسألة الهجرة.

وأصبح فينتورا قوّة سياسية خلال السنوات الخمس الماضية، بفعل خطابه الحادّ ضدّ المهاجرين، وطائفة الروما، وتنديده المستمرّ بفساد السلطة والاحتكار السياسي الثنائي الطابع للحكم في لشبونة. على أنه بدا في أجواء الانتخابات أكثر هدوءاً وأقلّ عدوانية، ما قرأه الخبراء شحذاً لصورة رجل السياسة المسؤول استعداداً للانتخابات التالية التي قد تأتي سريعاً.

وفي بولندا، واجه عمدة وارسو الموالي للاتحاد الأوروبي، رافال ترزاسكوفسكي، أمس، جولة إعادة صعبة ضدّ مرشّحة «حزب القانون والعدالة»، كارول نوروكي. وكان ترزاسكوفسكي تقدّم على منافسته اليمينية المدعومة من تيار الرئيس ترامب بفارق نقطتين مئويتين فقط في الجولة الأولى. ومن شأن فوز نوروكي تقويض المشروع السياسي لرئيس الوزراء الوسطي المدعوم من بروكسل، دونالد توسك، ويمكن أن يكون نذيراً بعودة «حزب القانون والعدالة» اليميني إلى السلطة عام 2027 أو حتى قبل ذلك في حال إجراء انتخابات مبكرة.

ولا شكّ في أن تيارات أقصى اليمين الأوروبية جميعها انتعشت بفضل تأثير هالة ترامب وتياره في الولايات المتحدة والروابط الأيديولوجية التي تجمعهم، إلّا أن التوجّه الشعبي العام نحو اليمين يظلّ مع ذلك نتيجة ثانوية منطقية للإحباط الاجتماعي والاقتصادي الذي تعاني منه الأكثرية عبر القارة، وتترجمه التيارات الفاشيستية حرباً ثقافية ضدّ المهاجرين والآخر المختلف، من دون أيّ مساس بالهياكل الأساسية للأنظمة التي تركّز الثروات بيد القلّة المتنفّذة على حساب الآخرين.

وبالطبع، ثمّة لوم يقع على عاتق الأحزاب الوسطية واليسارية، ذلك أن سوء إدارتها لانعكاسات الأزمة المالية العالمية في عام 2008، ولاحقاً للحرب في أوكرانيا وحصار روسيا، كما خضوعها للسياسات الأميركية – التي فرضت قبول ملايين اللاجئين من مناطق الصراعات المفتوحة في الشرق الأوسط وأفريقيا واستثمار موازنات ضخمة لتعويم النظام الأوكراني – أنتجت تفاقماً في عدم المساواة، وتآكلاً في الأمن الاجتماعي، وانتقاصاً من حقوق العمال والفئات المهمّشة والأقلّ حظاً، وتسليعاً لكلّ جوانب الحياة.

على أن فورة أقصى اليمين، كما ظهرت بجلاء في انتخابات رومانيا والبرتغال وبولندا وقبلها ألمانيا والسويد وفنلندا وبلجيكا وهولندا والنمسا وكذلك في بلديات بريطانيا، ليست وليدة ميل مستجدّ لدى الناخبين إلى التطرّف، بقدْر ما هي نتيجة محتّمة لفشل النموذج الاقتصادي النيوليبرالي الذي لم يَعُد يخدم الأكثرية. ومع ذلك، لا تزال النخب الحاكمة متمسّكة به، وتدافع عنه بشراسة وصلف. وما لم تحدث تطوّرات حاسمة في منهجية الحكم خلال السنوات القليلة المقبلة، فسيعلو مدّ هذا اليمين ليغرق كلّ أوروبا طوال عقد الثلاثينيات من القرن الحادي والعشرين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى